كتب

نظرات في منازلة النوازل

date

السبت 20 شوّال 1443هـ 21 مايو 2022مـ

هذه دراسة جادة  عن واقع الأمة الإسلامية المعاصر ، يتناول الأسباب الكامنة وراء كثرة النوازل التي حلت بالأمة الإسلامية واستمرارها ، وتتناول الدراسة الحلول الممكنة لهذه الأزمات المزمنة . وهي عبارة عن ثلاث مقالات نشرت في مجلة البيان .

استأذنت الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل ـ حفظه الله ـ في تجميعها وإعادة نشرها لما أرى فيها من الفائدة .وليس لي في هذا العمل إلى وضع الخطوط الحمراء على بعض الجمل .  والله أسأل أن ينفع ويبارك بفضله وكرمه ومنته .  

د / محمد جلال القصاص .  
 

(1) 

نظرات في منازلة النوازل 

وأعني بمنازلة النوازل ، مقاومتها ومقارعتها وعدم الاستسلام لها ، أوالضعف أمامها .

 فالأقدار تدافع بالأقدار ، فما كان شراً منها نمتثل فيه لخطاب الشرع ، فلا نحتج بالقدر في إهمال التكليفات الشرعية المتعلقة به .

 و المسلمون عندما تقع بهم نازلة بمعنى مصيبة عامة ، أو كائنة كبرى فإن هذه النوازل ؛ إما أن

تجيء ابتلاءً وامتحاناً ، أو كفارة وتمحيصاً ، وإما أن تجيء عقوبة وجزاءً دنيوياً] وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [( الكهف : 49 ) .

 والنوازل الواقعة ، تجب على المسلمين تجاهها تكاليف وأحكام ، منها ما يتعلق بالقدر ، ومنها ما يتعلق بالشرع . أما ما يتعلق بالقدر فواجبنا أن نعلم أن النوازل والنوائب هي من قدر الشر المر الذي بيَّن

الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان به مع الإيمان بأقدار الخير ركن من أركان الإيمان ، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور : « وأن تؤمن بالقدر خيره وشره » [1] . فبمقتضى هذا الركن السادس من الإيمان ، نحمد الله على تقديره الخير ،ونصبر على أقدار الشر ، مع التزامنا بمدافعتها شرعاً بحسب الوسع والطاقة ، وفي حدود ما شرع الله ، ومن واجبنا كذلك أن نؤمن أن الأقدار خيرها وشرها من تدبير

الله فلا يتجاوز شيء منها ما خُط في اللوح المحفوظ ، والله تعالى لا يقدر شيئاً منها عبثاً ، ولا يجعل شيئاً منها شراً محضاً ، بل كل مقدر لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى .

والذي أريد تأكيده هنا ؛ هو ما ذهب إليه أهل السنة من أنه لا يجوز اتخاذ قدر الله وقضائه حجة بعد الرسل ، فالحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل ، وهذا يعني ألا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك ما أوجبه الله علينا تجاه النوازل التي تنزل بنا ، وهذا أمر ينبغي أن نؤكده ونردده ونكرره ... ولماذا نكرر هذا .. ؟

- لأن ظاهرة ( القدرية )[2]  في التعامل مع نوازلنا المتتابعة أصبحت نازلة أخرى ؛ حيث استفحلت في الآونة الأخيرة ظاهرة « الانتظار » ... انتظار الحلول  القدرية الغيبية دون بذل القدر الداخل في الوسع تجاه ما ينزل بالمسلمين من محن ، وما يتجدد لهم من نوائب ، تأتي بسبب تكالب الأعداء من جهة ، وبسبب التفريط في

الأخذ بأسباب القوة والوحدة من جهة أخرى ، وبسبب ما يتضاعف كل يوم من مظاهر العصيان والرضا بالدنيا عن الآخرة من جهة ثالثة ، قال تعالى : ] وَمَاأَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [ ( الشورى : 30 ) . وقال : ] مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [ ( النساء :

79 ) . وقال : ] أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ

عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ ( آل عمران : 165 ) .

 - سبب آخر يدعو إلى تكرار الحديث عن ظاهرة القدرية في التعامل مع النوازل ، وهو انتشار الشعور بـ ( براءة الذمة ) عند أول إخفاق في محاولات حل الإشكالات ، وكأننا لم نؤمر بأن نصبر ونصابر ونرابط وأن نتحمل الآلام والتضحيات كما يفعل أعداؤنا للأسف بكل جَلَد وجلاد ، وصبر وعناد ، قال سبحانه : ] وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُون [ ( النساء : 104 ) .

- سبب ثالث يدعو إلى ذلك التكرار عن ظاهرة القدرية وأطروحة الانتظار ، وهو أننا أصبحنا ندمن تطبيع العلاقات مع المصائب ؛ بمعنى التعود عليها بعد زمن يسير ، فلا تعود توجع لنا قلباً ، أو تُدمع لنا عيناً ، أو تدفع الواحد منا وهذا هو الأخطر إلى بذل شيء أي شيء للأعذار إلى الله في محاولة المساهمة في دفعها

ورفعها ، ولكنه الانتظار السلبي القاتل لمجهول يأتي .. أو لحل خارق يجيء ! ..

انظر كمثال فقط لحال الأمة مع الانتفاضة الفلسطينية في بدايتها ، وحالهم معها بعد مضي ثلاثة أعوام على انطلاقتها ... هل ظل التعاطف معها كما كان ؟! هل بقي الدعم كما بدأ .. ؟! هل زادت النصرة للمستنصرين على المستويات الرسمية والشعبية والجماعية والفردية ؟! إن كل ذلك في تناقص واضح خطر ، يحكي

التناقض الصارخ المرير في أحوال أمة تزيدها النار برودة ، ويزيدها الدمار هدوءاً ، وتزيدها الدماء هروباً للأمام ، فهل الانتفاضة أو بالأحرى - الجهاد الفلسطيني - أحوج اليوم إلى الدعم والمعونة أكثر أم هو منذ ثلاثة أعوام ؛ عندما كانت أعواد المنابر تهتز بالتأييد ، وأصوات القنوت في المساجد ترفع بالدعاء ، وصناديق التبرع تزيد وتفيض بالأموال ؟!

 وأما عن التفاعل الإعلامي مع الأحداث فحدّث ولا حرج !! قارن فقط بين ما صاحب مقتل الطفل ( محمد الدرة ) في أوائل أيام الانتفاضة من مشاعر ألم وثورة ورغبة في الثأر ، وبين ما يحدث الآن من مظاهر التبلد وقلة الاكتراث الذي أصبح يصاحب مشاهد القتل للعشرات من الأطفال ، مع مشاهد التفجير والهدم والتدمير .

 أو قارن - إن وجدت وجهاً للمقارنة - بين حادثة اقتحام المجرم شارون للمسجد الأقصى في شهر رجب من عام 1421هـ ، والتي أثارت غضباً إسلامياً عالمياً وعربياً وفلسطينياً ، كانت الانتفاضة نفسها جزءاً منه ، وبين الزيارة الإجرامية الثانية لوزير الداخلية الإسرائيلي ( تساحي هانجبي ) قبيل بدء شهر

الصيام بأيام لساحة المسجد الأقصى ، تلك الزيارة التي صاحبتها مظاهر الاستفزاز والتحدي نفسها ، ومع ذلك مرت مروراً عابراً دون أي مظهر من مظاهر الغضب أو الاحتجاج رسمياً أو شعبياً !!

 إن كل معايش للأمر يعلم أن إخواننا تزداد نازلتهم مع الأيام حدة وشدة ، ولكن الحاصل أن ما يُقدم لهم يتناقص مع الأيام ، مادياً ومعنوياً !! أليس هذا مثالاً واضحاً على تخبطنا في التعامل مع النوازل ؟!

 قس على ذلك طريقتنا في التعامل مع بقية القضايا والرزايا التي تداهمنا كل يوم ، وآخرها ما حدث في بغداد ، حيث كانت الشوارع في العواصم العربية تموج بالمظاهرات الحاشدة تنديداً بالحرب وتأييداً للعراق ، فلما نزلت النازلة وقامت الحرب ، ووقع الاحتلال ؛ تغيرت الأحوال ، وارتخت الحبال ، وانصرفت

الجماهير الثائرة إلى حال سبيلها .

  إن أكثر ما يؤرق في ظاهرة التبلد والانتظار ؛ أنها تعطي الأعداء إشارات فاقعة الأخضرار للاستمرار في إنجاز خطواتهم ومشروعاتهم دون إزعاج أو قلق ، وخطورة هذه الظاهرة تنبع من كونها بدأت تترسخ لتكرس الهزائم وتهوِّن الهوان !

نقول هذا ، ونحن نحتفظ في الوقت نفسه للمجاهدين المستضعفين الذائدين عن حرمات الأمة ؛ بحقهم الكامل في التقدير من كل مسلم ، ولكن حديثنا هنا عن مجموع الأمة التي تملك من الإمكانات ما يمكنها بإذن الله من الانتصار من أعدائها ، والانتصاف لمستضعفيها ، ولكنها لا تجد من يقود دفتها الجماعية لمواجهة الهجمة

الإرهابية العالمية التي تقودها قوى الاستكبار الصهيونية ، نصرانية ويهودية .

 ما أشبه الليالي بالبارحات :

إن النوازل تترادف تترى فوق رؤوس المسلمين منذ أكثر من عشرة عقود ، فلا يجد أكثرها جهة جامعة تُنتدب لها ، أو قوة ماضية تنتصب لمواجهتها ، ففي الأعوام المائة الأخيرة فقط من حياة المسلمين ؛ تتابعت نوازل ، ووقعت كوائن ، ما كان لها أن تخلّف ما خلفت من مصائب مقيمة لو أن الأمة اصطفت وقتها خلف قيادات علمية وعملية تنزّل من الشريعة على هذه النوازل ما يعاجلها بالعلاج ، وما يناسبها من الأخذ بالأسباب .لقد اجتمع على الأمة من النوازل خلال المائة الماضية ما لم يجتمع عليها منذ أن أُخرجت للناس ، ومع ذلك فقد عبرت قوافل تلك النوازل غالباً في طرق خالية خاوية دون عرقلة قوية مضادة ، أو مواجهة شرعية جادة ، بسبب تفرق خواص الأمة قبل عوامها ، ولهذا سلّمت كل أزمة زمامها للتي بعدها ، فتضاعفت خلال الأجيال حتى جاء جيلنا جيل الأزمات والملمات ؛ فوقف عاجزاً أو متعاجزاً بتفرُّقه وتشرذمه أمام جبل المسؤوليات ، منتظراً حدوث الخوارق ووقوع المعجزات ، دون كثير اكتراث بما توجبه الشريعة من فروض وواجبات ، وعلى رأسها تجميع الكلمة خلف المنهج القويم ، ومواجهة الأعداء بصف مرصوص . 

حقيقة أخرى ينبغي أن نصارح بها أنفسنا ، وهي أن من تأمل في معظم أحوال النوازل الحاضرة ؛ سيجد أن لها جذوراً قديمة من التقصير العام ، حيث كانت تجري في كل جيل عملية ( ترحيل ) للمسؤوليات إلى ما يسمى بـ ( الجيل

القادم ) .. وعندما يقدُم هذا الجيل ؛ فإنه يحيل أيضاً جزءاً كبيراً من واجبات عصره وفرائض وقته إلى الجيل الذي يليه ، حتى تراكمت الواجبات والتكليفات ، وأصبحنا نعيش عصر نوازل عامة ، لا يشابهه عصر من العصور الإسلامية السابقة .

 صحيح أن محناً كثيرة مرت على المسلمين خلال التاريخ الإسلامي ، مثل سقوط الأندلس ووقوع بيت المقدس في يد الصليبيين ، واجتياح التتار لبلدان المشرق الإسلامي ، واستيلائهم على عاصمة الخلافة في بغداد ، ولكن تلك الكوارث

لم تصرف الأمة عن شريعتها ، ولم تؤثر في هويتها ، أو تتركها عاجزة عن التصدي والوقوف أمام أعدائها . كان هناك دائماً انتصار بعد انكسار ، وعزيمة للخروج من الهزيمة ، وكان هناك إباء للضيم ، واستعلاء على الاحتواء ضد من كان المسلمون يرونهم أدنى مدنية وديانة ، وأردأ خلقاً وثقافة ، وأضعف جنداً  وحضارة . أما في عصرنا الذي نعيشه فقد جدَّ من النازلات في حياة المسلمين ما حيَّر الألباب ، لا من مجرد وقوعه بل من استمرار بقائه ، فكم من نازلة نزلت فأقامت ، وكم من كائنة عرضت ثم استقرت ، ومصيبة قال الناس ستزول ، ولكنها طالت ودامت ، وأخرى لفظوها ورفضوها ، ثم استمرؤوها وعايشوها .

 هناك حشد من الوقائع الكبيرة الحادثة في هذه المائة الأخيرة ، لم يكن للمسلمين عهد بها من قبل ، ولكن « تطبيع العلاقات » مع النوازل والمصائب ؛ جعل الناس يتعايشون معها وكأنها شيء اعتيادي ، يمكن أن نظل في ظله خير أمة وأعز أمة

وأقوى أمة ، إنها وقائع جسيمة حقاً ولكن هناك من يريد تحقيرها وتصغيرها والإبقاء على استمرارها .

 - فلأول مرة يفرغ منصب الولاية العامة للمسلمين ( الخلافة ) نحو قرن من الزمان ؛ دون أن يخلف الخليفة أحد غيره كما كان العهد طوال التاريخ الإسلامي .

 - ولأول مرة يسقط كيان المسلمين الدولي ، وسلطانهم العالمي ممثلاً بنظام الخلافة الإسلامية الذي سقط بسقوط الدولة العثمانية ؛ دون أن يعود هذا النظام ليقود المسلمين مرة أخرى في زمن التكتلات النصرانية والإلحادية واليهودية والهندوسية .

 - ولأول مرة تستبدل الشريعة الإلهية التي حكمت المسلمين ثلاثة عشر قرناً ، لتحل محلها في الحكم بين المسلمين في معظم البلدان قوانين وضعية وضيعة ، وشرائع بشرية جاهلية ، يُحكم بها حكماً عاماً في الدماء والأموال والأعراض

والأبضاع والسياسات الداخلية والخارجية .

 - ولأول مرة في تاريخ الإسلام تكون للذين كفروا اليد العليا في إدارة العالم من خلال تحكمهم في المؤسسات الدولية ، والتكتلات العالمية ؛ بينما يتخبط المسلمون مع منظماتهم الهزيلة إقليمياً وعالمياً .

 - ولأول مرة تقع معظم بلاد المسلمين تحت الحكم المباشر لجيوش المعتدين الكافرين كما حدث في النصف الأول من القرن المنصرم ؛ لتسلم بعد ذلك لفئام المنافقين ، يغرقونها في الإثم والعار ، ويحكمونها بالحديد والنار .

 - ولأول مرة يقوم فوق حطام الكيان الإسلامي الضخم ، كيان مسخ قزم ، يجمع أشتات أسوأ المخلوقات البشرية من اليهود ؛ ليكون لأولئك الأرجاس دولتهم القوية التي يعدونها نواة لعولمة يهودية تريد إخراج الناس من النور إلى الظلمات ،

بعد أن أخرجهم الإسلام من الظلمات إلى النور .

 - ولأول مرة تسقط الأرض المقدسة في فلسطين في يد ذلك الكيان المرذول ، وتجتمع لنصرتهم فيها وتمكينهم منها طوائف الكفار جميعاً ، وبخاصة أنصار إبليس من نصارى العصر المتهودين ( البروتستانت ) الذين تناسوا ثاراتهم وعداواتهم مع

من كانوا يعدونهم قتلة المسيح وأعداء الإله ؛ ليتوحدوا بهذه العداوات ضد الموحدين .

- ولأول مرة تكون لأصحاب الصليب صولة ودولة متفردة ، يتهددون بها كل المسلمين في عقر ديارهم ، وينازعونهم في أرزاقهم ، ويفرضون عليهم حقارة حضارتهم وسخافة ثقافتهم ، دون أن يمكنوهم من الأخذ بأسباب القوة العصرية

المودعة في الأسرار التقنية التي يجري على المسلمين فرض حصار حولها ، حتى تظل بلدانهم أبد الدهر سوقاً استهلاكية ، تساق للهلاك كلما حاولت واحدة منها الخروج من ذلك الحصار الحضاري الضاري .

 لقد أثمرت تلك الأوضاع متضافرة أزمة عامة ، حشوها أزمات ، ونازلة كبرى مركبة من العديد من النوازل والنكبات ، وصار تساؤل الكثيرين لا عن إمكانية الخروج عنها ، أو التخفيف منها ، بل عن كيفية التعايش معها والتسامح فيها !!

? عندمايغزونناولا نغزوهم ..

 تحكي حركة التاريخ دائماً أن التحولات في المجتمع البشري تأتي نتيجة عمليات غزو وغزو مضاد ، وكل غزو يحمل فكرة أو عقيدة أو مذهباً يريد العلو على غيره وفرض إرادته عليه . ولما كانت الأفكار والإرادات والعقائد والثقافات

تتقلب بين كفر وإيمان ، وبين فساد وصلاح ، كانت الغلبة لفريق غازٍ ، هي غلبة لفكرته وإرادته وعقيدته وثقافته ، فعندما يغزو المؤمنون أو يصدون الغزو ، تنتصر  وتعلو عقيدتهم وثقافتهم وإرادتهم ، والعكس يحدث عندما يغزوهم الكفار ، أو

يمنعونهم من الغزو لنشر الإيمان والاستقامة والتوحيد .

وهذه هي سنة التدافع التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى : ] وَلَوْلادَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [ ( البقرة : 251 ) ، وقوله :] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ

يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مّكّنّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ  وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [( الحج : 40-41 ) ، إن الآية الأولى - آية البقرة -

جاءت تعقيباً على قصة انتصار التوحيد بقيادة طالوت و داود ، على الشرك والوثنية بقيادة جالوت ؛ لتبين أنه لولا مثل هذا الدفع لفسدت الأرض بشرك أمثال جالوت ، عندما تعلو كلمتهم على منهج الإيمان والتوحيد الذي جاء به أنبياء كداود - عليه

السلام - . والآية الثانية - آية الحج - وهي أول آية نزلت في القتال ؛ جاءت بالإذن للمسلمين في قتال أهل الشرك من قريش ؛ لما بالغوا في إيذاء المسلمين لفتنتهم عن دينهم وإعادتهم إلى الشرك ، وبينت الآية أنه لولا هذا الأذن بمثل ذلك

الدفع في كل زمان لفسدت الأديان كلها ، وظهر الشرك وأهله على الإيمان وأهله ، ولهدمت الصوامع في ديانة موسى ، والبِيَع والصلوات في ديانة عيسى ، والمساجد في ديانة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى الرسل أجمعين[3]  .

 فتاريخ البشرية يحكي هذا التدافع الذي ينتج عنه فرض صاحب القوة لفكرته مهما كانت كاسدة ، وفاسدة مفسدة ، على المغلوب مهما كانت عقيدة راجحة ، صالحة ومصلحة .

 ولم يحدث للمسلمين أن غُزُو غزواً عاماً بهذا المفهوم إلا في أعقاب إسقاط الخلافة العثمانية ، وما تلاها من محاولات إحلال العلمانية الكفرية محل المناهج الإيمانية في الشريعة والعقيدة ، لقد بدأ هذا الإسقاط بغزوات وحروب ، قادتها في

البداية روسيا النصرانية القيصرية الأرثوذكسية ، ثم تتابع الكاثوليك والبروتستانت على محاربة هذا الكيان الإسلامي لغزوه ، حتى كانت النهاية على يد البروتستانت الإنجليز في الحرب العالمية الأولى التي احتل الإنجليز فيها إستانبول في نهاية

مطاف طويل من التحالف بينهم وبين فريق متكامل بين المنافقين في داخل الدولة العثمانية ، وبالتعاون مع حركة الصهيونية العالمية حديثة النشأة في ذلك الوقت ، ومن يومها والأمة تتقلب بعد هذا الغزو من حال سيئة إلى حالة أسوأ .

 

?مسلسل النوازل ، من إستانبول إلى بغداد :

 هناك أمر لافت في ترتيب العلاقة بين ما مضى بالأمس وبين ما يحدث اليوم من الأحداث ، فإذا استعرضنا من ذاكرة التاريخ القريب أحداث إسقاط الخلافة العثمانية فقط ، ثم ما تفرع عن ذلك من انفراط عقد المسلمين ؛ لوجدنا أن جُل

النوازل بعدها قد تولد عنها ، بدءًا من سيطرة الكفار العسكرية المباشرة على معظم  بلدان المسلمين ثم توريثها للعلمانيين المنافقين ، ومروراً بكارثة ضياع فلسطين ، ووصولاً إلى ما يحدث الآن في العراق و أفغانستان و الشيشان و الفلبين وكل

البلدان التي يستضعف فيها المسلمون ، فالبدء كان بدولة الخلافة العثمانية الجامعة لشمل المسلمين ، والتي مثلت - بالرغم مما قيل فيها من مثالب - فخراً للمسلمين ، فسقوط هذه الدولة لم يكن تحصيل حاصل كما يزعم بعض المؤرخين ، ولا كان أملاً

جماهيرياً عند المسلمين كما يهرف جهلة المثقفين . 

لقد كانت هذه الدولة عالمية بكل المقاييس ، حيث امتدت في الزمان والمكان ، فمن حيث الزمان استمر بقاؤها لأكثر  من ستة قرون ، ومن حيث المكان امتدت أراضيها من آسيا إلى أوروبا إلى إفريقيا في بقاع شاسعة ، كانت تقوم على حمايتها أكثر جيوش العالم عدداً وعُدة ، حتى إنها عبرت البحر من الأناضول إلى جنوب شرق أوروبا وأواسطها ، وتمكنت تلك الجيوش التي افتتحت أمجادها بفتح القسطنطينية عاصمة الشرك الأوروبي في سنة 857هـ على يد محمد الفاتح ، تمكنت من فتح اليونان و بلغاريا و رومانيا و يوغسلافيا و ألبانيا ، و رودس ، و قبرص ، و المجر ، و كريت ، وسارت جيوشها حتى بلغت فيينا عاصمة النمسا ، ووصلت إلى جنوب إيطاليا ، فكانت أول دولة إسلامية تُدخل النور على ربوع أوروبا المظلمة التي خيمت عليها سحابات الشرك  الداكنة طوال تاريخها المعتم بالجاهليات الوثنية .

 ولكن هذا الصرح الإسلامي الكبير ، تكالبت عليه الأعداء كما قلنا ، وفي مقدمتهم نصارى أوروبا الذين كسر الجهاد العثماني أنوفهم ، فتحالفوا مع اليهود والمنافقين على تقويض أركان ذلك البنيان الشامخ ، وبدأ الهدم من الداخل أولاً عن

طريق الفريق المتكامل من المنافقين الزنادقة المتسمين بأسماء المسلمين ، وصاحَبَ ذلك عمليات الغزو الفكري التي كانت تمهد دائماً لكل أنواع الغزو الذي يليها ، ومع تكثيف إرساليات التنصير ، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية ؛ تهيأت الدولة

للسقوط بعد استعصاء طويل استمر كما قال المؤرخ الفرنسي ( دين جروسيه ) 220 عاماً تضافرت فيها جهود أعداء العثمانيين وكل المسلمين للقضاء على هذه الدولة المجاهدة .

 ولا حاجة الآن لحكاية مراحل ذلك المسلسل الطويل ، ولكن ما يعنينا هو الفصل الأخير المعاصر لعملية الإسقاط ، والتي تفرعت عنه فصول أخرى متشابهة  في تفاصيلها وإن كانت مختلفة في مسمياتها . 

 لم يستطع المسلمون بعد ثمانين عاماً من وقوع هذه النازلة أن يعالجوا آثارها ، ولم يستطيعوا أن يعيدوا بناء كيانها الجامع ( دولة الخلافة ) ، أو يردوا الاعتبار  لذلك المنصب الشاغر ( الخليفة ) ذلك المنصب الذي شغرت بشغوره الثغور ، وتجرأت على الأمة بعده الكلاب والذئاب والغربان والنسور ! .

يكاد المرء ألا يصدق ما حدث عندما يسترجع بالذاكرة تسلسل الأحداث ، فالحدث على جلالته وفجاعته جاءت خاتمته على يد رجل وضيع ، لئيم في خبثه ، وصلد في عناده وصلفه ، رجل تحدى أمة بأكملها ، ولم تخرج له الأمة أحداً من رجالها ... إلا قليلاً من المغلوبين على أمرهم ، كيف استطاع هذا الطاغوت اليهودي الأصل ( مصطفى كمال أتاتورك ) أن يحمل المعول وحده في المرحلة الأخيرة ويهدم ذلك الصرح كله ؟!

 لاحظ معي تسلسل خطوات التآمر السافر ، ولاحظ معه كيف مرت هذه النوازل الجسام على الأمة مرور الكرام ، أو على الأقل .. مرت الغزوة بسلام بعد أن دمرت مستقبل أمة الإسلام لعقود طويلة في بلدان كثيرة .

 سأعرض في لقطات سريعة خلاصة الجريمة الكبرى والنازلة العظمى التي لم تتم منازلتها بما يليق بخطورتها ؛ بحيث تعودت الأمة بعد ذلك على أن يتم تكرار ( السيناريو الأتاتوركي ) على يد العديد من صغار الفجار الذين عدّوه مثلهم الأعلى ، ونموذجهم المحتذى .

 

? الزلزال وتوابعه :

ــــ عندما عزم أتاتورك على إلغاء الخلافة بعد أن أعطاه الإنجليز « الاستقلال » بهذا الشرط ؛ عرض على مجلس النواب بالجمهورية التركية الجديدة اقتراحاً بفصل الدين عن الدولة ، فأحال مجلس النواب الاقتراح على لجنة قانونية لدراسته ،

وبعد الدراسة رفضت اللجنة القانونية الاقتراح ؛ لأنه يخالف الدستور الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة ، فغضب أتاتورك وطلب التصويت على القرار فيما يسمى بـ ( الجمعية الوطنية ) .

 - كان معنى فصل الدين عن الدولة كما أراد أتاتورك في البداية ؛ أن يبقى الخليفة مجرداً من السلطات ، وأن ينظر إليه فقط على أنه صاحب وظيفة دينية روحية فحسب ، مع ترك تصريف شؤون الدولة للوزراء في ظل نظام علماني لا ديني ولا أخلاقي ، وكان أول من طُبقت عليه هذه الأفكار الخليفة عبد المجيد ، ولكن الأتراك تعاطفوا معه ضد أتاتورك وزمرته ، إلا أن هؤلاء المارقين فرضوا أفكار الردة بقوة الإرهاب ، وأمر أتاتورك بالفعل بقتل عدد من معارضي إلغاء الخلافة .

- عندما وُوجه أتاتورك باعتراضات المعارضين لمسعاه المشؤوم ؛ هاجمهم بلهجة عنصرية تفوح منها رائحة القومية الجاهلية المنتنة المختلطة بروح الصهيونية اليهودية العفنة ، حيث قال لهم : « أليس من أجل الخلافة والإسلام قاتل

القرويون الأتراك وماتوا طيلة خمسة قرون ؟ لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها لوحدها ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ؛ لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين » !

- لم يكتف أتاتورك بنزع الشرعية عن الخليفة ومنصب الخلافة ، حتى راح يتهم الخليفة الأخير بأنه عميل وصنيعة المستعمرين الإنجليز ، وفي صبيحة 2/3/ 1924م أعلن إلغاء منصب الخلافة كلية ، وطلب من الخليفة عبد المجيد وأسرته

مغادرة البلاد في غضون عشرة أيام ، وأصدر أمراً بحرمانهم من الإقامة بتركيا ، ثم أتبع ذلك بإلغاء كل المناصب الدينية .

- تحول اللدود بعد ذلك إلى إلغاء كل معالم التمسك بالدين عند الشعب التركي المتدين بطبعه ، فحوَّل أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة لتنفقها في غير ما أوقفت له ، وحوَّل المعاهد الدينية إلى مدارس تدرّس المناهج العلمانية ، وألغى المحاكم

الشرعية بعد أن أوقف العمل بأحكام الشريعة ، ثم طوَّر مسيرته الإجرامية بمزيد من الخطوات القسرية التي تهدف إلى طمس الهوية لشعب عريق في تدينه ومحبته للدين ، فألغى حجاب المرأة ، وأمر بحظر تعدد الزوجات ، ومنع الرجال من لبس

غطاء الرأس الشرقي ( العمامة والطربوش ) واعتمد لهم ( القبعة ) الأوروبية ، وحتى الكلام ... حظر التحدث فيه بالعربية ، بعد أن أرغم الناس على كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية ، واستمرأ ذلك الطاغوت سكوت الناس ، فأمرهم بتغيير أسمائهم وكناهم إذا كانت عربية ، لتحل محلها أسماء وكُنى طورانية !! .. وويل للمغلوب إذا غزاه الغالب[4] .

- وكان لا بد من خطوات تضمن الإبقاء على إلغاء كل ما يتعلق بالإسلام بقوة القوانين الجائرة ، فعدل الدستور ليرفع منه العبارة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة ، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع ، وكان ذلك في عام 1928م ،

بعد أربعة أعوام من إلغاء منصب الخلافة ، ثم خطا خطوة أكبر فألغى تدريس العلوم الدينية سنة 1929م ، ثم أصدر تعليماته بألا تمارس الشعائر في المساجد إلا باللغة التركية بما فيها الأذان ، وحتى القرآن أمر بكتابته باللغة التركية وحروفها اللاتينية ، ولم يأت عام 1932م إلا والأذان يرفع باللغة التركية ، وألغى أتاتورك كذلك الأقسام الشرعية بالجامعات التركية .

- لم يكتف ذلك الذئب الأغبر بإيقاف العمل بأحكام الشريعة ، حتى أعطى لنفسه الحق في تبديلها وتغييرها ، فأصدر مرسوماً بمساواة الرجل والمرأة في الميراث ، وأجرى تغييرات كثيرة في القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية ؛ لتتلائم

مع القوانين الأوروبية التي أحلها محل الأحكام الإسلامية ، واستورد للمسلمين القوانين الكفرية ، السويسرية والإيطالية وغيرها ، ليثبت سلطان الاحتلال قبل أن يرفع عقيرته بتحقيق الاستقلال .

- كانت تركيا أثناء ذلك كله خاضعة للاحتلال البريطاني ، ولم يشأ الإنجليز الأعداء أن يغادروا تركيا التي احتلوها في الحرب العالمية الأولى ، إلا بعد أن يتم الكماليون الجريمة تحت إشرافهم ، وبعد أن اطمأن الإنجليز إلى أن تركيا أصبحت

في يد ( أمينة ) سلَّم قائد قوات التحالف ( اللورد هارنجتون ) حكومة أتاتورك مقاليد الأمور ، وأذن لتركيا بالاستقلال بزعم انتهاء دور الاحتلال ، وبالرغم من بقاء الاحتلال بصور أخرى كتلك التي ثبتها أتاتورك ، إلا أن بعض نواب الإنجليز

احتجوا في مجلس العموم البريطاني على ( منح ) وزارة الخارجية البريطانية تركيا الاستقلال ( مبكراً ) ، وقد دافع وزير الخارجية البريطانية آنذاك ( اللورد كرزون )  عن هذه « التهمة » بأن قال للنائب المعترض : « لا تخف من تركيا فقد قضينا عليها ، ولن تقوم للأتراك قائمة كما كانت من قبل ، فقد قضينا على عنصري القوة  فيها : الخلافة ، وأحكام الإسلام » ! .

  وفي عام 1336هـ / 1917م أي وقت اشتعال ما سُمي بـ ( الثورة العربيةالكبرى ) بقيادة المغامر المقامر ( حسين بن علي ) الذي وقف بثورته في صف النصارى ضد المسلمين الأتراك كانت وزارة الخارجية البريطانية قد أعدت وثيقة بالتزامن مع وثيقة ( وعد بلفور ) تبين الموقف البريطاني الرسمي وهدفه من استمرار القتال في الحرب العالمية الأولى ، جاء فيها : « لا شك في أن تحطيم الإمبراطورية العثمانية الفعلي هو أحد الأهداف التي نعمل على تحقيقها ، وقد يبقى الأتراك شعباً على شيء من الاستقلال ضمن منطقة آسيا الصغرى ، وإذا تم لنا  النصر فمما لا شك فيه أن الأتراك سيحرمون من جميع المنطقة التي نطلق عليها اسم الجزيرة العربية ، كما أنهم سيحرمون من معظم الأجزاء الهامة في وادي الفرات و دجلة ، وستفقد إستنابول و سوريا و أرمينيا ، كما أن أجزاء من جنوبي آسيا الصغرى إذا لم تضم إلى القوات الحليفة ؛ فإنها ستكون بصورة ما تحت سيطرتهم » [5] .

? وهنا تثور تساؤلات عديدة :

     - أين كان علماء الأمة وحكماؤها وأهل الحل والعقد فيها ، وتلك الأحداث المتتابعة تفور وتمور بهذا الشكل المدمي للقلوب ، ولماذا اعتبرت هذه الأمور الخطرة على مستقبل الإسلام في العالم مجرد مشكلات ( محلية ) في الدولة التركية ؟!

 

     - ولماذا سكتت الشعوب على هذه المهازل المجموعة في دفعة مركزة من التغيير الجذري والقسري الذي أصاب جوهر حياة الإنسان المسلم ؟!

     - عندما زالت الخلافة العثمانية ؛ لماذا زالت معها معالم التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة على مستوى الحكومات التي خلفتها في تركيا وغيرها ، وهل كانت مشكلة المنافقين العلمانيين مع نظام الخلافة العثمانية أم مع نظام الحكم الإسلامي

نفسه ؟!

     - هل كان دور المرتدين والمنافقين أسبق في إتمام المؤامرة أم كان دور الكفار من النصارى واليهود أسبق ، أم أن غياب الوعي وعجز الإرادة في خواص الأمة هو الذي مهد الطريق لهؤلاء وهؤلاء ؟!

 

     - هل كان لهذه الهجمة صداها في عصر ما قبل الجماعات والحركات الإسلامية ، وهل قامت هذه الجماعات بعد نشوئها كرد فعل على النازلة هل قامت بمحاولات جادة لإيقاف تكرار هذه المؤامرة الكبرى في أماكن أخرى ؟ وهل كانت

هذه المحاولات على المستوى المتناسب مع النازلة ، أم أنها كانت نازلة عن مستواها بسبب فرقة الصفوف واختلاف الكلمة ؟!

     - مع ما تواجهه الحركات الإسلامية خاصة ، والشعوب الإسلامية عامة ، من هجمة غربية ربما تكون أشرس من الهجمة السابقة في القرن الماضي .. هل من المناسب أن تظل برامج تلك الحركات والجماعات كما كانت عليه خلال القرن

الماضي ، وهل سيظل ( أمل ) إقامة النظام الإسلامي العالمي بخطواته المتدرجة على رأس أولويات العمل الإسلامي الآن كما كان الشأن قبل ذلك ؟!

     - وأخيراً ... ونحن لا نزال نعيش آثار العدوان على كياننا الإسلامي الجامع ، هل هناك أمل باقٍ في إعذار شرعي حقيقي إلى الله ، يؤدي فيه هذا الجيل الواجب المنوط به ، دون ترحيل للمسؤولية إلى الأجيال القادمة ... أم أننا سنظل

نؤثر الانتظار دون إعذار .. ؟!

     أرجو أن تتيسر الفرصة لمناقشة هذه التساؤلات أو بعضها في أعداد قادمة

بإذن الله .
 

(2)

العلمانية .. « إمبراطورية النفاق » من مهد لها الطريق ؟!

 

في هذا المقال يتتبع  الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل نشأت القومية ( العلمانية )  في البلاد الإسلامية وكيف أنها بدأت يهودية ثم حمل رايتها النصارى .. دعوة وتنظيرا ... ثم انضم إليهم ما أسماهم المنافقين ممن ينتسبون إلى الإسلام .

ويعرض الدكتور عبد العزيز مواقف علماء الأمة من نازلة إحلال العلمانية اللادينية محل الخلافة الإسلامية ، مناديا بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي المعاصر تبرز دور المنافقين في تغريب الدين

 عندما يتناول المهتمون بالشأن الإسلامي الكلام عن حدث إسقاط الخلافة الإسلامية في تركيا ، ويتناوبون تقليب جوانب تلك النازلة الكبرى التي لا تزال الأمة تعيش آثارها منذ ثمانين عاماً ، فلا ينبغي أن يفهم ذلك على أنه إشادة مطلقة ، أو تزكية عامة لمسلك العثمانيين في إدارة شؤون عموم المسلمين ، فلا شك أن تلك الإدارة اعتراها الكثير من المآخذ المنهجية والسلوكية ، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من عمر تلك الخلافة الممتدة عبر خمسة قرون ، ولكن تلك المآخذ لا ينبغي أيضاً أن تأخذنا بعيداً إلى حد التهوين من شأن ما أصاب الأمة بعد حل رابطتها العالمية وكتلتها الإسلامية الدولية ممثلة في تلك الخلافة .

  لقد كانت نكبة الأمة بسقوط السلطة في أيدي العلمانيين المنافقين اللادينيين بعدها في أكثر بقاع العالم الإسلامي ؛ أشد ضرراً وأنكى أثراً من سقوط الخلافة العثمانية نفسها ، حيث جسَّد أولئك المنافقون العلمانيون بعد سيطرتهم المبدأ الفاسد الكاسد بفصل الدين عن الدولة ، وأصَّلوا فرقان الشيطان بين السلطان والقرآن ، ذلك الفرقان الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب »[6]  .

  وكان هذا « الفصل » بين الدين والدولة ، أو بين الشرع والحُكم ، تضييعاً للشرع وإضعافاً للحُكم ، بل كان إضعاف الحكم بالإسلام مقدمة لإضاعة الدين والدنيا معاً ، في تتابع مستمر قابل لأن يطال كل أسس الدين وثوابت الشريعة ، كما أخبر الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلم : « لتُنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة ؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ؛ فأولهن نقضاً الحُكم ، وآخرهن الصلاة » [7] .

  وقد صدَّقت حقائق التاريخ المعاصر هذه النبوءة المعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فما أن يُنقَض الحكم بالإسلام في أرض ، إلا ويتسلط عليها شياطين الإنس ، فيقوضون بنيانها وينقضون عُراها بدءًا بمنصة القضاء الشرعي ، وانتهاء بإقامة الصلاة التي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الولاة لها في الناس فيصلاً بين شرعية ولايتهم أو عدم شرعيتها ؛ وذلك عندما سأله بعض الصحابة عن حكم أئمة الجور قائلين : « أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة » [8][3] .

  الأمر إذن ، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل عثمان ، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وفي إقامة سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها : [ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ]( ص : 26 ) .

 ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها .

 [ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ]( المائدة : 49 ) .

  وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه ، وذلك في شرائعه وشعائره ، وروابطه وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام ( حاكم ) يُحْكم قياد العباد ، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة : [ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ ]( الجاثية : 18-19 ) .

 

? عُرى الشيطان تنازع أوثق عُرى الإيمان :

كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم ، أن أوحى بعض المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول ، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين ، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى ( عثمانيين وأجانب ) ؛ فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى ( رابطة عثمانية ) وذلك عن طريق ما يسمى بـ ( إعلان التنظيمات العثمانية ) الصادر في عام ( 1255هـ ) ( 1839م ) وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى : مسلمين عثمانيين ، وهم رعايا ومواطنو الدولة العثمانية ، ومسلمين غير عثمانيين ، عدَّهم الإعلان ( أجانب ) ! وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو اللغة أو الجنس ، بينما وُضع الآخرون ( الأجانب ) من المسلمين في خانة أدنى ، وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ الإسلامي العظيم [ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ]( الحجرات : 10 ) .

  كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها ، ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل ، فيعلنوا في الناس أن خلافة المسلمين لكل المسلمين ، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية الأرضية العنصرية ، ولكن ذلك الإجراء مضى ، وتطاولت به السنون ، حتى تحولت النزعة « العثمانية » إلى نزعة « طورانية »[9]، يدَّعي أصحابها أن الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى ( قوم ) متميزون ، ونشأ بذلك ما سمي بـ ( القومية الطورانية ) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية ، وهي التي نشأت رداً لها أو تأثراً بها ( القومية العربية ) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك ، فأنشؤوا بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم للمتنازعين من المهاجرين والأنصار : « أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة » [10]، وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين آخر من الأنصار ، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين ، فتداعى قوم بالنصرة من الأنصار فقالوا : ( يا للأنصار ! ) وقال آخرون : ( يا للمهاجرين ! ) ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم قوله الآنف .

  المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام ، ظل معمولاً بها ، حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 - 1909م ) فغير تلك السياسة ، وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين ، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه المحمود من علماء الأمة وعقلائها ، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر ؛ فبينما أيده على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) ، والشيخ محمد عبده ( ت 1905م ) من خلال جمعية ( العروة الوثقى ) التي شكلاها لتكون أداة إعلامية لهذا التوجه ، إذا بآخرين من أمثال ( عبد الرحمن الكواكبي ) ( ت 1902م ) يأخذون توجهاً آخر ، فينادون بـ ( جامعة عربية ) وخلافة عربية !! وصحيح أن الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً ، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء [11][6] ، لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية المسلمين ؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم ، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين و فرنسيين و إيطاليين .

  وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج ، استفحل الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك ، فنادوا بجامعة طورانية ، تجمع الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة .

  وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً ، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على بعض بغير ميزان التقوى وهو أمر منكر جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين والكفار ، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي .

 ومنذ ذلك الحين والصراعات القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها ، وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون ، عرباً كانوا أو عجماً ، فأقاموا حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية والمعنوية ؛ فتخاض لأجلها الحروب ، وتُشكَّل لها الأحزاب ، بل وتقوم عليها الدول .

  أما في تركيا نفسها ، فقد تشكل فريق ( القومية الطورانية ) لمهمة الإجهاز النهائي على الرابطة الإسلامية ، ومن ثم الخلافة الإسلامية ، وكانت جمعية ( الاتحاد والترقي ) أداتهم في ذلك ، وكانت أولى إنجازاتهم السوداء أن انقلبوا على السلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية ؛ وذلك في عام 1908م ، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته ، فلما قام أعوانه بمحاولة لتصحيح الأوضاع ، أطاح به الكماليون .

 ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية ؛ حيث سيطر الطورانيون على كل أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً ، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي ، وانطلق هؤلاء إلى تطبيق سياسة ( التتريك ) لكل مظاهر الدولة ، تمهيداً للانتقال من منزلة ( القومية ) الطورانية التركية الإقليمية ، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو ( الوطنية ) التركية المحلية ، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها نيابة عن إبليس ، صاحب الأصل اليهودي البئيس ( مصطفى كمال أتاتورك ) .

  في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً في شخص علمائها ومفكريها إلى الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي والصيني ، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة ، أو منطق اللسان ، أو انحدار العرق ، تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد ، بين المسلم الأمريكي ، والمسلم الإفريقي ، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو ، إنها الرابطة التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض .

 [ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ]( الحجرات : 10 ) .

  أما العلمانية المنافقة الماجنة ، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها الضال في الأناضول ، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه : « لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها ، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم ، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين » .

  لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله ، حتى كتب السفير البريطاني في تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في ( 28/6/1910م ) : « الآن ، قد أخذ الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت ، وأن القضية أمست قضية ترك وعرب » !

 أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون ، فإن مشروع فصم عُرى الإسلام ، بدءاً من حل رابطته ، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء شريعته ، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم ؛ فبعد أن أخفق ( تيودور هرتزل ) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة لليهود إلى فلسطين ، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على أنقاض الكيان الإسلامي العالمي ، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية اليهودية ، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية ، حتى إن اللورد ستون ، صاحب كتاب ( نشوء القومية ) في تركيا كتب يقول : « العلامة البارزة في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية » ، وقال : « إن أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً ، أو مسلمين من أصل يهودي ، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق « الدونمة » ويهود سالونيكا الأثرياء ، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية من فيينا و بودابست و برلين ، وربما من باريس و لندن أيضاً ...

 »  [12].

  وبالرغم من كل ذلك ، فقد وُجد من الإسلاميين عرباً وعجماً من أشادوا بالقوميات حتى يومنا هذا ، وهي التي ولدت يهودية في شرقنا الإسلامي ، ثم تبناها صليبيون وتغريبيون في البلدان العربية على شكل أحزاب أسسها نصارى من أمثال : ( أنطون سعادة ) مؤسس الحزب القومي السوري ، و ( جورج حبش ) مؤسس حزب القوميين العرب و ( ميشيل عفلق ) ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ، وكان أبرز القادة المنظرين للفكر العلماني في العالم العربي نصارى أيضاً ، من أمثال ( قسطنطين زريق ) و ( أميل البستاني ) و ( سلامة موسى ) ، ولا نستطيع أن نسمى من يسيرون على خطا هؤلاء ، ومن يسارعون فيهم إلا منافقين .

  لقد أصبحت الرابطة التي تجمع - أو بالأحرى - تفرق ما بين العرب هي ( الجامعة العربية ) !! التي أصبحت ( الراعي الرسمي ) لكل الهزائم العربية أمام اليهود و النصارى الذين وطنوا القوميات والوطنيات في بلدان المسلمين ، ثم بدؤوا هم يعودون للمنطلقات الدينية إنجيلية وتوراتية .

 ومن الجدير ذكره هنا أن دعوى الوطنية حلت محل القومية في تركيا بعد أن انهزم القوميون الطورانيون في تركيا في الحرب العالمية الأولى ؛ فقد انسحب أولئك الطورانيون من قيادة تركيا بعد توقيع اتفافية الهدنة بعد الهزيمة في 30/7/ 1918م ، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز عاصمة دولة الخلافة ، واحتلوا أيضاً فلسطين ، ليهيئوها بعد ذلك لإقامة دولة اليهود التي ظلت مستحيلة القيام في ظل جامعة إسلامية موحدة ، ومع تخلي الطورانيين عن الحكم ، حلوا جمعيتهم المشبوهة ( الاتحاد والترقي ) ليفسح الباب بعد ذلك للوطنيين بعد القوميين ، وتزعَّم مصطفى كمال أتاتورك ذلك الاتجاه ( الوثني الجديد ) ، وقدم نفسه على أنه منقذ الوطن ( تركيا ) من الاستعمار ، وبدأ يُرسَم له دور قائد ( المقاومة الوطنية ) ضد الاحتلال الإنجليزي ، وشكل جمعية أسماها ( الجمعية الوطنية ) عام 1920م ، لتكون ممثلة لسلطان الأمة كما يزعم ، وهنا انقسمت السلطة في الدولة العثمانية إلى سلطة شرعية بقيادة السلطان في القسطنطينية ، وسلطة معارضة في أنقرة ، وكان الإنجليز يتعاملون مع السلطتين معاً ، ريثما تحل سلطة المعارضة ( الوطنية ) محل السلطة الشرعية الممثلة آنذاك في منصب السلطان وحيد الدين ، ولكن الصراع احتد بين السلطتين ، وضُيق على السلطان واتهم بالعمالة للإنجليز ، وقلَّ أعوانه بعد أن تغلغل الكماليون في كل أنحاء وأجزاء الدولة ، فاضطر وحيد الدين إلى مغادرة القسطنطينية ، فخلا الجو للكماليين ، وتهيأ الفضاء الإسلامي في تركيا وما يتبعها من أوطان إسلامية ، لهبوط نازلة أعتى من القوميات وأنكى من الوطنيات .. إنها العلمانية الإلحادية الصريحة التي غرَّبت الإسلام في دياره ، وجادلته في المحكمات من نصوصه وآثاره ، وأرادت بل صممت على أن تنصب خيمتها وتقيم إمبراطوريتها على ركام بلدان الإسلام في أنحاء الأرض .

 

 ?خلافة البابوية : 

 بعد أن ابتلعت جمهرة الأمة ألعوبة العبث بعروة الأخوة الإسلامية الوثقى ، عن طريق القوميات والوطنيات ، وبعد أن تسبب ذلك في انعزال ثم زوال سلطان الخليفة الشرعي الأخير ( وحيد الدين ) سارع أتاتورك إلى تحويل الخلافة إلى ( سلطة روحية ) بعد تحويل السلطة الفعلية إلى الأمة في شكل ( البرلمان ) الذي توكل إليه على طريقة غير المسلمين كل قضايا التشريع والحكم التي لا يجوز إسنادها للبشر ، وقد تمثل ذلك فيما سماه الكماليون بـ ( الجمعية الوطنية ) التي شكلوا في مقابلها حزباً سياسياً يضمن السيطرة على قراراتها وتوجهاتها المحكومة برأي الأغلبية ، ولو كانت أغلبية المنافقين والفساق والكافرين ، وأطلق على ذلك الحزب السياسي ( الحاكم ) « جمعية الدفاع عن الأناضول » في قصة أصبحت كل أنظمة الحكم العلماني تكررها ، فتشكل أحزاباً ( حكومية ) لضمان السيطرة على البرلمانات التي تحكم باسم الأمة ، وهي في الحقيقة تحكم باسم الحزب الحاكم ، الخاضع دوماً للفرد الحاكم ، أما الخلافة التي أخَّرت بإذن الله هيمنة النصارى واليهود على العالم الإسلامي لخمسة قرون ؛ فقد حولها أتاتورك بإيعاز وتشجيع من الإنجليز ( الذين كان يناضلهم في الظاهر ) إلى سلطة روحية على غرار سلطة ( بابا ) النصارى الكاثوليك ، مع أن هؤلاء الإنجليز البروتستانت لا يعترفون لأنفسهم بسلطة كسلطة بابا الكاثوليك ، ولو كانت روحية ، ولكنهم ارتضوا للمسلمين بأن يكون لهم ( بابا ) مؤقت ، باسم الخليفة ، حتى يحين وقت محو هذا اللقب وذلك المنصب من الوجود إلى غير رجعة .

  ولما احتلت بريطانيا الأراضي التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى ، قال السفير البريطاني ( كرزون ) لعصمت إينونو رئيس وزراء تركيا عند عقد مؤتمر الصلح في نوفمبر 1922م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا : « إننا لا نستطيع أن ندعكم مستقلين ؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى ، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً » .

 ولكن أتاتورك تعهد للإنجليز أن يزيل مخاوفهم ، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط تزيل تلك المخاوف ، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في إبريل 1923م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني ، عرفت بعد ذلك بشروط كرزون ، وهي : 

1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .

  2 - أن تقوم بإلغاء الخلافة .

  3 - أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة .

  4 - أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام .

  وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية ( لوزان ) وتركت لحكومته كل الأراضي التي كانت قد سلبت من الأتراك العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل صاحب الإنجازات !  لاحظ معي أن روح ( لوزان ) لا تزال قانوناً غير مكتوب ، يحكم العلاقة بين الكيانات العلمانية التي سارت على درب أتاتورك ، وبين دول الكفر المختلفة .

  وقد حاولت بريطانيا في الوقت نفسه أن تشجع العرب على الانشقاق عن الأتراك ، لإنشاء خلافة عربية ، بشرط أن تكون ( روحية ) أيضاً ! فمرة تُمَنِّي ( الشريف حسين بن علي ) في ملك العرب جميعاً ، ومرة تتغاضى عن طموحات الملك فؤاد ملك مصر السابق في أن تكون القاهرة ( المحتلة ) عاصمة الخلافة ! 

 فماذا كانت مواقف المسلمين ، بعلمائهم وفقهائهم ومفكريهم وأرباب الدعوة فيهم تجاه هجوم العلمانية ، ومفهوم الخلافة « الروحية » الذي انتهى إلى الفناء والإلغاء ؟! 

كيف كانت منازلتهم لهذه النوازل الجديدة المناقضة لأمور معلومة من الدين بالضرورة ، وتتلخص في أن الحكم بشريعة الإسلام واجب يكفر منكره ، ويرتد جاحده ؟! ...

 ماذا كان موقف علماء ذلك العصر ومفكريه من طاغية ذلك العصر المبدل للدين والمذل للمسلمين ؟!  هذه بعض إلماحات مختصرة عن تلك المواقف قبيل وبعيد قرار إلغاء الخلافة البعض منها يدل على الكل ، في ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الأمة المعاصرة ، أسست أزماتها لكل الأزمات والنوازل بعدها ، وتشابهت المواقف من المجرمين وقتها ، من المجرمين بعدها .

?ليتهم سكتوا : 

- سبقت جرأة كمال أتاتورك على إعلان تحويل الخلافة إلى منصب روحي ، دراسة كان قد طلب إعدادها من فريق من ( الفقهاء ) الأتراك ، وتم صدورها في بيان فقهي تحت عنوان ( الخلافة وسلطة الأمة ) يتضمن القول بأن الخلافة مجرد مسألة سياسية صرفة ، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد ، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها مطلقاً ، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية » .

 وكان هذا الفقه الفاسد متكأ أتاتورك بعد ذلك في إلغاء الخلافة بشكل كلي .

  - طرح أحد أبرز مفكري ذلك العصر ، وهو عبد الرحمن الكواكبي ( ت 1902م ) المنحدر من أصول إيرانية شيعية ، مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية للخليفة ، بوضوح تام في كتابيه ( طبائع الاستبداد ) و ( أم القرى ) واقترح أن يكون للخليفة سلطة محددة بمنطقة الحجاز فقط ، تشبه سلطة البابا على مدينة الفاتيكان ، وقد اقتبس الكواكبي ذلك الطرح عن تيار ( العثمانيين الجدد ) الذين نقلوه بدورهم عن مؤلفات الأرمني النصراني ( مورداجا وهسون ) وقرينه ( غريك سوفاس ) .

  - أطلق رجل بحجم ( أحمد شوقي ) قصيدة في تبجيل أتاتورك وسماها ( تكليل أنقرة وعزل الأستانة ) أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة ، وعندما ادعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم أطلق أحمد شوقي أبياته المشهورة :

             الله أكبر كم في الفتح من عجبِ   * * *  يا خالد الترك جدد خالد العربِ 

 ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن ( خالد الترك ) بدلاً من أين يجدد خالد العرب ، فإنه بَدَدَ مجد الترك ومجد العرب .

  - كان زعيم الحركة السنوسية ، من أبرز من أيدوا الفصل بين الخلافة والسلطنة ، معتبراً أن ذلك في مصلحة الإسلام ، بل إنه نشر في جريدة الأهرام المصرية ، في 28/9/1923م ، بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي ؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها !  - كان موقف جمال الدين الأفغاني ( ت 1897م ) من السلطان عبد الحميد غامضاً ؛ فبعد تأييده في إعادة الاعتبار لمفهوم ( الجامعة الإسلامية ) بدأ يطالبه بأشياء مثيرة للشكوك ، كأن يطالبه بتعريب الأتراك ، ونقل عاصمة الخلافة إلى عاصمة أخرى .

 وجمال الدين الأفغاني ليس أفغانياً بل إيراني شيعي ( على الراجح ) ، كما أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لمقالات مجلة ( العروة الوثقى ) والكاتب ( قدري قلعجي ) في كتاب نشر له عام 1951م يتناول سيرة الأفغاني و محمد عبده و سعد زغلول .

 وسيرة الأفغاني المملوءة بالتقية الشيعية انعكست على طريقة تعامله مع مسألة الخلافة الإسلامية ، وهو ما جعل السلطان عبد الحميد يرتاب منه وينأى عنه .

  - وقف التيار الجهادي المغربي موقفاً غريباً من أزمة الخلافة ؛ فقد عارض عبد الكريم الخطابي ( 1881 - 1962م ) الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها وكانت تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها  [13].

  وبالرغم مما قامت به حركة الخطابي من بطولات فذة ، أفقدت الأسبان و الفرنسيين صوابهم وأجبرتهم على الانسحاب من أكثر الأراضي المغربية التي احتلوها ، فإن ذلك الموقف من الخلافة التي قامت بعد خلافة الأندلس التي كانت المغرب إحدى حواضرها الزاهرة ، كان غريباً في وقته ، وحتى لو كانت لحركة عبد الكريم الخطابي قضاياها الخاصة الكبيرة وهذا ما كان بالفعل فإن من غير المفهوم أن يكون الجهاد في إحدى البقع الإسلامية صارفاً ولو وجدانياً عن المشاركة في النوازل الجماعية التي تنعكس على مجمل أوضاع الأمة .

  - وفي الجزائر كان للشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم الإسلاميين في الجزائر في ذلك الوقت ومؤسس ( جمعية علماء الإسلام ) التي أضاءت سماء الجزائر بالعلم النافع والتجديد المتسارع موقف مغاير من أتاتورك خالف به جمهور الإسلاميين ؛ إذ نظر إليه على أنه « أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها الحديث » !! وقال عنه : « إنه عبقري من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله » ووصفه بأنه « محيي الشرق الذي غيّر مجرى التاريخ » ولم يعد ابن باديس أتاتورك متهماً بالقضاء على مكانة الإسلام ، بل جعل له ( شرف ) القضاء على ( أصحاب العمائم ) الذين أضروا بالإسلام !! ورأى ابن باديس أن الخلافة خيال غير قابل للتطبيق ؛ وأنه لا يمثله في الحقيقة إلا مؤسسة من ( أهل الحل والعقد ) التي يتصورها مرجعية دينية أدبية ، بعيدة كل البعد عن السياسة والتدخل في شؤون الحكومات ، وكان لا يتصور الخلافة نظاماً إسلامياً شرعياً ، ولكن يتصور بدلاً منها عالمية إسلامية ثقافية ! [14] .

  قد تكون لحركة ابن باديس ظروفها الموضوعية وتقديراتها الخاصة لما جرى في تركيا ، وقد تكون للشيخ مآخذه على منهج خلفاء آل عثمان ، ولكن ذلك لا يعني بحال أن يكون الطاغية ( أتاتورك ) محلاً لهذا الاحتفاء والمدح رداً على ما يُرى في العثمانيين من مثالب وقدح .

  - وفي مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت ، نشأ اختلاف حاد تجاه ما أحدثه أتاتورك ، بلغت حدته أن عده بعضهم مرتداً ، واعتبره آخرون مجدداً ، وبلغ اللغط قمته عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه الصاعق ( الإسلام وأصول الحكم ) فصاغ فيه أفكار الليبرالية العلمانية بلغة أزهرية ، تلبيساً منه وتدليساً ، وكان عبد الرازق قد تلقى قسطاً من تعليمه في جامعة أكسفورد ، وأسبغ عليه منصبه في القضاء وزناً أدبياً جعل مؤلفه فتنة في وقته ؛ حيث زعم فيه أن الإسلام دين وعبادة فقط ، ولا دخل له بالحكم ولا السياسة ، وبناء عليه فلا أساس لمشروعية منصب الخلافة ، ولا صحة لوجود شيء اسمه الحكم الإسلامي حتى في عهد الرسالة ؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعم عبد الرازق مجرد مبلِّغ للدين والرسالة ، وقد عرض كتابه على ( طه حسين ) داعية التغريب الملقب بـ ( عميد الأدب العربي ) فأضاف طه إضافات على كتاب عبد الرازق زادته ظلمات فوق ظلمات .

  - في خضم هذا اللغط المخلط للمفاهيم ، كان الشيخ مصطفى صبري ( 1869 - 1954م ) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية قد أصدر كتاباً بعنوان : ( الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة ) فكان صوتاً صادقاً صادعاً بالحق في وجه تغول الفكر العلماني وهجمته الانتهازية على أصول الإسلام من خلال تآمرهم على صرحه الباقي وحصنه الأخير .

 وكان الشيخ أيضاً ممن اغتر بدعاوى الإصلاح التي رفعها الاتحاديون ، فشارك في تأييد خلع السلطان عبد الحميد في مجلس ( المبعوثان ) على غير إدراك لأبعاد تآمر هؤلاء الاتحاديين على تركيا والعالم الإسلامي كله ، ولما تبينت له تلك الأبعاد قال نادماً : « أيدت خلع السلطان عبد الحميد ، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد » .. وبدأ بعد ذلك في الكشف عن حقيقة الكماليين التي اتضحت له ، وهاجم أتاتورك في أوج تألقه والتفاف الناس حوله ، وألف في الرد على من أيدوا اتجاهه المنحرف ، وبخاصة علي عبد الرازق ، حيث فند شبهاته وأبطل دعاويه .

  - أما بالنسبة للأزهر كأعلى مؤسسة علمية إسلامية في ذلك الوقت فقد فوجئ علماؤه بكارثة إلغاء الخلافة ، وفوجئوا كذلك بمسارعة الحسين بن علي إلى الدعوة لنفسه بالخلافة دون مشورة من بقية المسلمين ، كما كانت مفاجأة لشيخ الأزهر في ذلك الوقت ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) أن يرشح الملك فؤاد ، ملك مصر الأسبق نفسه لهذا المنصب بعد أن دعاه إلى ذلك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ، فطلب منه أن يعلن نفسه خليفة ، ويجعل من القاهرة عاصمة جديدة للخلافة ، وكان لهذه الدعوة أنصار في مصر ، كما كان لها معارضون مغالون في المعارضة ، وعلى رأسهم الأحزاب العلمانية الناشئة ، كحزب الأحرار الدستوريين و حزب الوفد .

  - ثارت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة الخلافة الإسلامية ، كان من ورائها دفع من قصر الحكم في مصر .

 وكان واضحاً أن للملك فؤاد رغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين ، فقوبلت هذه الرغبة من معارضيه السياسيين أشد المعارضة ، وكانت معارضة شخصية سياسية أكثر منها دينية ، ونجح هؤلاء المعارضون السياسيون في أن يقحموا السياسة في الدين على عكس مبدئهم المشهور ( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ) فهنا فقط أدخلوا السياسة في الدين ، وأغروا بعض المشايخ كما حدث من علي عبد الرازق ، بأن يصيغوا هذا الرأي السياسي المعارض صياغة دينية ، فجاء هذا الكتاب الكارثة ، على تلك الخلفية السياسية الشخصية الانتهازية .

  - تزعم حزب الأحرار الدستوريين ( العلماني ) المعركة ضد الخلافة ، لا اعتراضاً على شخص الملك فؤاد فقط ، بل رفضاً لمسألة الخلافة من أساسها لا بل رفضاً لحكم الشريعة بالمرة ، فقد كان ذلك الحزب رافضاً لأن ينص الدستور المصري لعام 1923م على أن الإسلام هو دين الدولة ، وكانت اللجنة المشكلة لوضع هذا الدستور كلها من أعضاء ذلك الحزب ، وكان حزب ( الأحرار ) هذا مدعوماً من الإنجليز ، وكان ينافسه في العمل الحزبي ، حزب الوفد الليبرالي العلماني أيضاً ، ولكنهما مع اختلافهما الشديد الذي وصل إلى حد العداوة ، اتفقا على معارضة عودة الخلافة .

  - أما المؤتمر المدْعُو له لبحث النازلة العامة بحثاً عاماً فقد تنادى للاستجابة له علماء شرعيون كثيرون ، وقد كان هذا الأمر جيداً في وقته ؛ فأن يبت علماء الأمة في شأن عظيم من شؤونها في مؤتمر عام أمر يحمد لهذا الجيل ، ويحسب في رصيده ، أما ما لم يحمد فهو أن ذلك المؤتمر قد انتهى إلى طريق مسدود ؛ فقد عقد ذلك المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة 1343هـ الموافق 25/3/1924م ، أي في السنة نفسها التي أعلن مصطفى كمال أتاتورك فيها إلغاء الخلافة ، وبالرغم من أنه عقد لبحث قضية إسلامية عالمية ، فقد غلبت عليه الصفة الإقليمية ، فجُل العلماء المجتمعين على فضلهم لا يمثلون إلا العلماء الرسميين الذين ينتمون إلى البلد التي يقودها ذلك الملك المرشح للخلافة وهي مصر .

  - انتهى مؤتمر النازلة الكبرى بعد بحث طويل إلى مقررات تتلخص في تقرير شرعية منصب الخلافة وطرق انعقادها ودعائم بقائها وأسباب زوالها عن الشخص المعقودة به ، ليخلص التقرير الصادر عن المؤتمر من ذلك إلى أن عزل كمال أتاتورك للسلطان وحيد الدين عن الخلافة جاء لأسباب ارتضاها المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافته ، ثم أشار التقرير إلى الخطوة الثانية من خطوات أتاتورك ، وهي تحويل الخلافة إلى خلافة روحية في شخص السلطان عبد المجيد ، وبيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي ( بدعة ) ما كان المسلمون يعرفونها من قبل ، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية ، وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً ، وحتى لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى الخلافة ، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه شرعاً ، واعتبر التقرير أنه « ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده ، ولا يملكون هم تمكينه منها » .

 

 ? إذن فما هو الحل ؟! 

حاول المؤتمرون أن يسوِّغوا العجز عن تقديم مبادرة لحل الأزمة ، بأن « العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في تركيا بإلغائهم منصب الخلافة ، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن « لا يتمكن المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة ، ولا في من يصح أن يكون خليفة لهم » ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع : « لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية ، وتكون بمدينة القاهرة ، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية ، على أن يعقد في شهر شعبان من 1343هـ مارس 1925م » أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر الأول !! 

 ولم ينس المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير الإسلامية ( الكافرة ) التي « راعت » ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب ، فلم تتدخل في شؤونهم .. « نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها ، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها » ! 

 

 ولنا ملاحظات وتساؤلات على ذلك المؤتمر ، وهي : هل كان المؤتمرون لا يعلمون شيئاً عن الدور الذي لعبته دول الأمم ( التي لا تدين بالإسلام ) في ترتيب خطوات إسقاط الخلافة بأشكال مباشرة وغير مباشرة ؟ .. وهل كانت وظيفة المؤتمر فقط أن يضفي شرعية على عزل السلطان عبد المجيد ؟

 وكيف لم يكن الحكم الشرعي في العلمانية المطروحة بديلاً للخلافة موضوعاً ضمن مقررات المؤتمر ؟ وكيف نجح العلمانيون في أن يؤثروا على توصيات المؤتمر بحيث لا يشير أي إشارة إلى حل بديل في قضية الخلافة ؟ 

 المؤتمر إذن لم ينجح ، وأرجأ إعلان عدم نجاحه إلى عام قادم يعقد فيه المؤتمر الثاني لبحث ( النازلة الكبرى ) !

 

 ? المؤتمر الثاني الموعود : 

 عندما جاء وقت انعقاد المؤتمر الموعود ، تأجل مرة أخرى لعام آخر ؛ لأن ( الظروف غير مناسبة ) وكانت تلك المدة كافية لأن تثير حول مفهوم الخلافة الكثير من التوترات والمهاترات التي من شأنها ( حتى من ناحية نفسية ) أن تقلل الحماس وتضعف العزيمة ، ولا شك أن العلمانيين الأوائل في مصر ومن خُدعوا بهم ، كان عليهم الجرم الأكبر في ذلك سواء كانوا من أصحاب ( الطرابيش ) أو ( أصحاب العمائم ) ، حيث عمل هؤلاء وهؤلاء ، من حيث يعلمون أو لا يعلمون على تحقيق غرض الإنجليز الواضح في تضييع الوقت ، وتمييع القضايا ، وتوسيع الصراع بين الأطراف في قضايا جانبية بعيداً عن القضية الأصلية ، ولما جاء أوان انعقاد ( مؤتمر الخلافة ) بعد عامين من سقوطها ، تحول ذلك المؤتمر إلى مواجهات بين أنصار الإبقاء على الخلافة بشكلها المعروف في الشرع ، وبين من رأوا إدخال ( تعديلات ) عليها ، وثارت مواجهات أخرى أشد بين أنصار تنصيب ( الملك فؤاد ) خليفة ، وبين أنصار تنصيب ( الحسين بن علي ) خليفة .

 ولأن المؤتمر عقد في مصر ، وبدعوة من حزب الاتحاد التابع للملك ، فقد كان من الطبيعي أن يفقد المؤتمر صفته العالمية ، بل حتى على المستوى المحلي ذاته فقد انقسم علماء الأزهر أنفسهم حول استحقاق الملك لمنصب الخلافة ، وكان على رأس المعارضين في ذلك شيخ الأزهر نفسه ( محمد أبو الفضل الجيزاوي ) الذي رأى أن القاهرة لا تصلح لأن تكون عاصمة لدولة خلافة جديدة ، وهي لا تزال تحت احتلال الإنجليز .

  لقد أسس هذا المؤتمر ( الإسلامي الرسمي العالمي ) لعادة أصبحت عُرفاً بعد ذلك في كل ما يماثله من مؤتمرات ، وهي اختصار المسافات بالقفز فوق الخلافات بدلاً من علاجها ، فقرر المؤتمر المنتظر ( والمؤجل لعامين ) تأجيل البت في مسألة الخلافة ( لظروف أنسب ) في مؤتمرات لاحقة ، دون أن يعينوا لها زماناً أو مكاناً !! ، وكان من مسوغات تأجيل البت في ( مسألة ) الخلافة في ذلك المؤتمر ، أن الحضور رأوا أن « العالم الإسلامي أصبح ممزقاً ، وأن النزعة القومية بدأت تسيطر عليه » !! 

 لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن المؤتمر كان للعلماء ، وليس للساسة والزعماء ، ولهذا كانت تسويغاته للفشل عذراً أقبح من ذنب ؛ إذ إنها جعلت الآفة التي جاءت لمعالجتها سبباً في ترك النظر في العلاج ، كما يُترك المريض حتى يموت بدعوى أن حالته الصحية ليست جيدة !! وقد رسَّخ المؤتمر إخفاق قادة الأمة ( المفترضين ) في تجاوز المحنة ، ولو بشكل نظري يضع الأمور في نصابها ويوقف العابثين بتراث الأمة ومصيرها عند حدهم ، وكما أسبغ المؤتمر الأول مشروعية ضمنية على جريمة أتاتورك في عزل عبد المجيد بعد تجريده من مقاليد الحُكم ، فقد أضفى المؤتمر الثاني نوعاً من التطبيع على هيمنة العلمانية ، بفتح الطريق أمامها بغير قصد لأن تمسك هي بزمام الأمة ، فيتحول غربانها من المنافقين وثعالبها من الأفاكين إلى ( أهل حل وعقد ) في مجالس الزور المسماة بـ ( البرلمانات ) .

  ومنذ ذلك العهد بدأت المعركة الحقيقية بين الإسلام وغريمه الأكبر في ذلك العصر ( العلمانية ) ...

 تلك الأداة الطيعة في أيدي كل أعداء الأمة ، من يهود و نصارى و ملحدين ، فما نفذ هؤلاء وهؤلاء إلى صميم حصون الأمة إلا على ظهور منافقيها ، وما نالوا من دمائها وأموالها وأعراضها بمثل ما فُعل على أيدي سفاحيهم وسفاكيهم .

 

 ولهذا فإن التاريخ المعاصر يحتاج لإعادة كتابة يرصد فيها دور حزب المنافقين المعاصرين ، في التغرير بالأمة لنحو مئة عام متواصلة ، قامت خلالها لهم إمبراطورية كبرى ، هي ( إمبراطورية النفاق ) التي تضم كياناتهم المتعددة القائمة على إزاحة سلطان الإسلام لصالح سلطان الشيطان .

 

  ? لكن نقطة بيضاء ناصعة : 

 

 ، نورت آفاق المواقف من نازلة إلغاء الخلافة ، كان يمثلها موقف عدد من العلماء الأحرار ، أمثال : الشيخ مصطفى صبري ، والشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد بخيت المطيعي ، والشيخ محمد الخضر حسين ، فقد كان لكل منهم صولات وجولات في المنافحة عن حقائق الدين وحرماته أمام تلك الهجمة ، ويذكر هنا بوجه خاص الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد رشيد رضا ، حيث أثار مناقشات فقهية حول مفهوم الخلافة الروحية في مجلته ( المنار ) في أعداد متتابعة ، ثم جمعها في كتاب بعنوان ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) وكان رأي رشيد من أرشد الآراء المعلنة في تلك الحقبة المظلمة ؛ حيث كانت خلاصة رأيه في مقالاته وكتابه أن الخلافة مسألة شرعية ، وأن نصب الأمة للإمام واجب شرعاً ، وأنها تأثم كلها بترك هذا الواجب ، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع ترك هذا الواجب [15][10] .

  وكان كتاب رشيد رضا رداً على كتاب ( الخلافة وسلطة الأمة ) الذي أعده بعض شيوخ تركيا بأمر أو تآمر من مصطفى كمال أتاتورك ، وجاء هذا الموقف المعارض لأتاتورك وشيوخه ، بعد مرحلة من التأييد والتشجيع ، خُدع فيها رشيد رضا - رحمه الله - بشعارات أتاتورك فيمن خُدع ، حتى إنه راهن عليه في إصلاح أحوال الأمة انطلاقاً من تركيا ، وطالبه بتشكيل ما أسماه ( حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل ) ليكون ممثلاً لفكر أستاذه محمد عبده ، ولكنه اكتشف زيف دعاوى أتاتورك بعد ذلك فاتخذ منه الموقف الشرعي الصحيح ، ودعا الشيخ رشيد جاهداً إلى إعادة تأسيس الخلافة على أصول صحيحة ، بل إنه وكما يظهر من بعض كلماته في تفسير المنار ، حاول أن يسلك مسلكاً عملياً لأجل الوصول إلى ذلك الغرض الشرعي بتشكيل فريق عمل يسعى لإعادة الخلافة .

  وكانت محاولات الشيخ محمد رشيد رضا لمنازلة تلك النازلة ، هي أول تحرك مبكر للتصدي لتلك المحن ، تطور بعد ذلك على شكل جماعات وحركات وهيئات وجمعيات ، قامت من أجل العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ...

 فهل أدت هذه وتلك الأدوار المناطة بها ؟ .. إن لذلك قصة أخرى ، أرجو أن تتوفر لمناقشتها فرصة أخرى .

( 3 )

العمل الإسلامي .. نحو حلول ممكنة لأزمات مزمنة

نشأت بدايات العمل الإسلامي الجماعي منذ ما يزيد عن سبعين عاماً في ظرف ضرورة ، وزمان أزمة ، وحقبة اغتراب خيمت على المسلمين في العالم بعد انفراط عقدهم بإلغاء نظام الخلافة لأول مرة بعد ثلاثة عشر قرناً من عمر الدعوة ، وكان على العاملين للإسلام في ذلك الوقت أن يواجهوا طوفاناً من الفتن الهاجمة على الأمة بعد غياب سلطان الإسلام عنهم وتحالف أحزاب الشيطان عليهم ، دون أن يكون لهم معسكر يفيئون إليه ، أو أرض ينطلقون منها ، أو قوة كبرى يعتمدون عليها ، لم يكن أمامهم إلا الاعتماد على الله والاستناد إلى ركنه المكين ، وهم ينشدون نشر الدعوة وإعادة المنعة لهذا الدين .

  وتطور العمل الإسلامي وتوسع في البلدان بأطياف مختلفة وأهداف متنوعة ، تشكلت للعمل لأجلها جماعات كثيرة ، اتخذت كل منها سبيلاً للوصول إلى غاية مفترضة واحدة ، وهي إعلاء كلمة الله ، ونشر دعوة الإسلام .

 فكان من تلك الجماعات ما تخصص في العلم ونشره ، ومنها ما تفرع للدعوة والأعمال التربوية ، ومنها ما توجه نحو مشاريع الرعاية الاجتماعية والأنشطة الخيرية ، وبينما انتصبت جماعات للسعي في الإصلاح ليكون الإسلام هو الحل من خلال وسائل وقنوات سياسية ، رأى آخرون أن ذلك الحل لن يتحقق إلا عبر مشروعات تغيير جهادية ، تقوم على فرض حلول عسكرية للنوازل التي بدأت عسكرية ، بغزو الكفار للمسلمين في عقر ديارهم حتى وصل الأمر إلى ذروته باحتلال الإنجليز لعاصمة الخلافة الأخيرة ( إسطنبول ) - القسطنطينية سابقاً - عام 1918م وكان ذلك تتويجاً لمسيرة طويلة من الاجتياح العسكري لبلاد المسلمين ، اشتركت فيها الدول الاستعمارية بمذاهبها النصرانية الثلاثة : البروتستانية ، والكاثوليكية ، والأرثوذكسية ، فالإنجليز البروتستانت اشتركوا مع الفرنسيين الكاثوليك منذ وقت مبكر في التربص بجزيرة العرب ، فضربوا مدينة جدة عام 1858م ، ثم احتل الإنجليز الإمارات الخليجية عام 1866م ، واحتلوا مصر عام 1882م ، و السودان عام 1899م ، وكانوا قد بسطوا هيمنتهم على جنوب اليمن قبل ذلك في العام 1839م واحتلوا عُمان عام 1858م ، هذا في القرن التاسع عشر أما في القرن العشرين فقد احتل الإنجليز العراق عام 1917م ، و فلسطين عام 1918م ، و سوريا عام 1920م ، وها هم يعودون إلى العراق في القرن الحادي والعشرين بالاشتراك مع الأمريكيين في العام 2003م ، ولا يزالون يتربصون مع الأمريكيين بقائمة أخرى من البلدان العربية والإسلامية في السنوات القليلة المقبلة .

 وأما فرنسا الكاثوليكية فقد احتلت مصر عام 1799م ، واحتلت الجزائر عام 1830م ، و تونس عام 1882م ، و المغرب 1911م ، و موريتانيا 1903م ، وسوريا 1918م ، واحتل كذلك الإيطاليون الكاثوليك إريتريا عام 1878م و ليبيا عام 1911م ، وحتى النمسويون احتلوا أراضي المسلمين في البوسنة و الهرسك عام 1887م .

  أما الروس الأرثوذكس ، فقد بطشوا بالمسلمين أيام روسيا القيصرية ، وفي عهد روسيا الشيوعية وإلى اليوم بعد أن عاد الروس نصرانيتهم الأرثوذكسية ، فقد احتلوا بلاد القوقاز عام 1864م ، و طشقند عام 1878م ، و أوزبكستان و تركستان الغربية عام 1890م ، وضموا طاجيسكتان عام 1929م ، و تركمستان عام 1925م ، وهم إلى اليوم يتربصون بالوجود الإسلامي في آسيا ؛ فبعد غزوهم لأفغانستان عام 1979م ؛ غزوا الشيشان عام 1994م ، ثم انسحبوا منها ، ثم غزوها مرة أخرى عام 1999م .

  وقد رأى الذين اختاروا الحل المسلح أن المنافقين العلمانيين الذين خلفوا المستعمرين الكفار في بلاد المسلمين لم يكونوا يقلون عن الأعداء الظاهرين إفساداً وعداءً للإسلام وأهله ، لأنهم نابوا عنهم في كل ما جاؤوا من أجله : إقصاء الشريعة ...

 مطاردة الدعوة .. هدر الثروات .. شق الصفوف .. إفساد الأجيال .. ترسيخ التبعية ...

 توطين الطغيان ورهن الأوطان ؛ فقد كانوا باختصار خلفاء للاستعمار باسم مستعار وهو : الوطنيون الأحرار .

  وبغض النظر عن تعيين الخيار الأنجع والأوقع من بين تلك الخيارات التي توزع إليها العمل الإسلامي ؛ فإن الأمة بمجموعها كانت تحتاج إلى التنويع بين كل ذلك ؛ فاختلاف أحوالها زمانياً ومكانياً ؛ كان يفرض بين آن وآخر ومكان وآخر ؛ التركيز على لون من ألوان تلك التوجهات ؛ فبينما وجد الإسلاميون أنفسهم في ساحات معينة غير قادرين إلا على التوسع في النشاطات السلمية الرسمية ، اضطر آخرون لاتخاذ موقف الدفاع في جبهات معارضة سياسية ، أو أقحموا في منازلات ومواجهات عسكرية ، وبخاصة عندما كان يأتي الخطر من الخارج عبر الداخل من خلال المنافقين أو المغفلين ، مثلما حدث في كل البلاد التي احتلها الكفار وآخرها أفغانستان التي احتلها الروس الملحدون في أول القرن الهجري الحالي ، ثم احتلها النصارى الصليبيون آخر الربع الأول منه ، وكذلك العراق التي احتلت مؤخراً ، ووجد الإسلاميون فيها أنفسهم فجأة في مواجهة عدو غازٍ محتل ، لا يملكون خياراً في مواجهته إلا حمل النفس على حمل السلاح دون سابق إعداد أو استعداد .

 لقد كان كل فصيل من فصائل العمل الإسلامي في الجملة يقوم بدور مكمل لأدوار الآخرين ، بحيث لا يمكن الزعم بأن جهداً واحداً منهم كان يمكن أن يغني عن جهود الآخرين ، فلم يكن بوسع الأمة في مرحلة ما أن تتحول كلها إلى مجاهدين ، ولم يكن مطلوباً منها في أخرى أن تفرغ كل جهدها خلف السياسيين ، ولم يكن واجباً عليها في يوم من الأيام أن تحول كل العاملين إلى علماء أو طلاب علم أو مفكرين ، كما أنها لم يكن في مستطاعها أن ترهن كل أنواع التغييرات التحتية انتظاراً للتغييرات الفوقية .

  كان لا بد للسفينة أن تمضي وتسير مهما حاربتها الرياح وعرقلتها الأعاصير ، صحيح أن فصائل العمل الإسلامي لم تنسق مسبقاً لتوزيع الأدوار ، ولم تتفق قبلاً على تنويع المهام ، إلا أن الأمور سارت بقدر من الله نحو تكامل معقول أدى فيه العاملون للإسلام بمجموعهم ولا يزالون الكثير مما كان يجب أن تقوم به الأنظمة والحكومات ، تلك التي كانت في غالبها الأعم لا تكتفي بكف يدها عن الإصلاح الشرعي المطلوب لأحوال الأمة ، وإنما تعدت ذلك إلى سد الأبواب أمام المصلحين ، وفتحها أمام المفسدين والمنحرفين .

  لقد كان هذا التكامل - غير المقصود - بين تخصصات العمل الإسلامي برهاناً على خيرية الأمة ، ودليلاً على قابلية التشريع ؛ لأن يعيش فيها وبها في ظل أحلك الظروف ، فحتى مع غياب  (1) أخرجه أبو داود في سننه ، (3740) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (599) . 

الكيان الجامع المسؤول عن القيام بكل هذا في عالم المسلمين - أعني به نظام الدولة الواحدة ( الخلافة ) - فإن سفينة الإسلام سارت ولا تزال تسير - ويا للعجب - بغير ربان ولا قبطان .

 وعندما أقول أنها سارت ولا تزال بلا ربان ولا قبطان ؛ فإني أعني بذلك غياب الولاية العالمية العامة للمسلمين ، بشقيها : السياسي والعلمي لنحو قرن من الزمان ، فلم يكن لهم طوال أكثر من قرن مضى ولاية سياسية موحدة تُخضع الجميع ، ولا ولاية علمية عامة تقنع الجميع وتجب لها طاعة الجميع كما أمر الله تعالى في قوله : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ](النساء : 59) .

  لهذا سارت السفينة خلال قرن مضى تعترضها الأخطار ، وتصارعها الأمواج ، وتصفق فوقها الصواعق والبروق فلا تنتهي ، وتجري عكسها الرياح بما لا تشتهي ، كل ذلك وقلة من المخلصين من ركابها ينوبون عن ربانها الغائب في القيادة الجماعية القائمة على غير خبرة أو اختصاص ، وعلى غير ترتيب سابق ولا تنسيق لاحق ، لكن السفينة سارت ، وبقيت في سيرها للآن محاولة الوصول إلى بر الأمان .

  إن أي تقويم لنتائج العمل الإسلامي في حقبه السابقة لا بد أن يستصحب ويستحضر هاتين المقدمتين المهمتين :

 غياب الولاية السياسية العامة ، 

وغياب الولاية العلمية العامة ؛ 

لأن غيابهما قد حول أحوال الأمة إلى ظرف استثنائي ، تعسّر فيه علاج المعضلات على أصولها ، وتعذَّر جمع الآراء حول حل لها ، فأصبح الضعف العام في الأمة لذلك يكاد يبدو بدهياً في ظل تلك الأوضاع غير الطبيعية .

 ? إنجازات رغم الصعوبات : 

مع كل ما اقترن بمسيرة العمل الإسلامي من عراقيل وعقابيل ؛ فقد أنجز العاملون للإسلام على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم إنجازات كبيرة في ظل ظروف الأزمة تلك ، ويمكن تعداد أبرزها فيما يأتي : 

 ?- إحياء كثير من معالم الدين التي كادت تندرس منهجياً وعملياً وبث الروح في صلة المسلمين بعقائدهم المستمدة من أصول أهل السنة ، مع توسيع دائرة النفور من الابتداع وأهله .

  ?- تحريك الضمير الديني العام للأمة نحو أهمية العودة للإسلام منهجاً وسلوكاً ، وجعل تطبيق الشريعة قضية عامة على مستوى الشعوب ، بعد أن كانت مطلباً خاصاً للجماعات الإسلامية .

 ? - تحقيق قفزة هائلة نحو إنقاذ شباب الأمة من الضياع ، باستقطاب شريحة كبيرة منهم نحو الالتزام الديني ، واتضاح ذلك من خلال ظاهرة عمران المساجد وتفعيل الأنشطة الدعوية بعناصر شبابية .

  ?- إحياء الكثير من سَمْت الإسلام المعلن وشعائره الظاهرة بين الرجال والنساء ، وإعادة الاعتبار بشكل معقول لفريضة الحجاب في كثير من البلدان رغم الحرب السافرة لأنصار السفور .

  ?- إعادة الحياة لشرعة الجهاد ضد المعتدين من الكفار تحت رايات إسلامية ، دون تحرج من الاتهامات المعتادة بالإرهاب والتطرف ، ووضع حد لظاهرة الجرأة على استعمار بلاد المسلمين وإطالة احتلالها ، كما حدث خلال القرنين الماضيين .

  ?- كسر حاجز الخوف من الاحتساب على الظلم والظالمين ، وخوض المنازلات ضد الجبروت والجبارين ، ومباشرة المواجهة ضدهم ، كما حدث في الملحمة الأفغانية السابقة وما تلاها من ملاحم في الشيشان و البوسنة و الصومال ، وما يحدث الآن في فلسطين و العراق .

  ?- إبراز إفلاس العلمانية براياتها المختلفة ، من خلال وضع حكوماتها تحت مجهر المحاسبة الشعبية في ضوء المعايير الشرعية ، حيث تركزت الأضواء لكشف إخفاقها العام سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً ، وبطلانها شرعياً واعتقادياً .

?  - النجاح في ابتكار منابر إعلامية إسلامية ، بجوار المنابر الأصلية في المساجد ، وتحقيق قفزة إعلامية نسبية ، أصبحت مرشحة على تواضعها أن تنافس إمبراطوريات الإعلام الفاسدة داخلياً وخارجياً ، وتحقق شيئاً من الندية معها في صناعة الرأي العام الإسلامي .

 ? - إيجاد صوت سياسي إسلامي قادر على إيصال إرادة الأمة لمن بيدهم السلطان ، مع التمكن من إعادة نظريات الحكم والسياسة في الإسلام إلى موقع الأهلية للتطبيق .

  ?- أسلمة كثير من العلوم الإنسانية ، وإضفاء ضوابط شرعية على بعض العلوم التطبيقية ، إضافة إلى المشاركة في النهوض بمستوى التعليم الديني بالانخراط في المدارس والمعاهد والجامعات المتخصصة في تخريج أجيال من طلبة العلوم الشرعية .

  ?- فضح زيف المناهج الفكرية والأطر المذهبية المناوئة للإسلام عقيدة وشريعة في العصر الحاضر ، من خلال شن هجوم مضاد على المستشرقين والمستغربين ، وبروز رموز فكر إسلامي قادرين على جهاد الكلمة ضد جراءة الإلحاد والعلمنة والتغريب والانحلال مع كشف عوار المبادئ الأرضية المنافسة للشرائع الإلهية في أوطان المسلمين ، كمبادئ الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية والشيوعية والماركسية ونحوها .

  ويمكن إضافة الكثير والكثير من التفاصيل حول تلك الإسهامات الإيجابية لما اصطلح على تسميته بـ ( الصحوة الإسلامية ) تلك الصحوة التي جاءت تحقيقاً قدرياً لما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال : « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها » [16] .

  وبما أن لفظة ( مَنْ ) في الحديث تصدق على الفرد والمجموع ، ولمَّا لم يشهد أحد لفرد واحد بالقيام بكل ما سبق ، فقد ثبت أن ذلك التجديد هو من فعل المجموع ؛ فكل العاملين للإسلام شركاء في تلك الإنجازات المتنوعة بتنوع تخصصات هؤلاء العاملين ، وبفضل الله تعالى ثم بفضل تلك النجاحات فإنه لا يسع أحداً أن ينكر أن أحوال الأمة في الربع الأول من القرن الخامس عشر ، أفضل منها بكثير عن قرن مضى من حيث صلتها بالدين علماً وعملاً .

  ولكن إنباء الرسول صلى الله عليه وسلم عن تجديد الدين مع بداية كل قرن ، لم يرافقه إخبار بالتمكين له مع مطلع كل قرن ؛ فصحيح أن الدين من حيث جوهره قد تجدد مصداقاً لتلك السنة الإلهية ، إلا أنه لم يتمكن بعدُ ؛ لأن تمكنه خاضع لسنن أخرى ليست زمانية قدرية ، ولكنها شرعية دينية .

 فإذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين بحفظ كتابه وتجديد منهاجه كوناً وقدراً ، كما في قوله تعالى : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ](الحجر : 9) ، وقوله عز وجل : [ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ](القيامة : 18-19) فإنه سبحانه جعل التمكين للدين موكولاً لأهله شرعاً وديناً كما قال جل شأنه : [ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ](محمد : 4) ، وقال : [ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ](الحج : 40) ، وعلى هذا الصعيد أخفق المسلمون بعامة ، والإسلاميون منهم خاصة في تحقيق الحد الأدنى من التمكين الذي تترتب عليه إعادة رفعة المسلمين ليكونوا كياناً مهاب الجانب مرهوب القوة نافذ السلطان ، فالإسلام كلمة الله لا بد أن يكون لأهله سلطان مهاب مطاع ، حتى يتمكن الدين من أن يكون متاحاً مباحاً لكل العالمين ، ليقبلوا عليه مختارين ويدخلوا فيه أفواجاً .

 ولعل هذا سبب اقتران الفتح بالنصر في قوله تعالى : [ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ](النصر : 1-3) .

  إن تجديد الدين وإحياءه علمياً لا يغني عن التمكين له عملياً ، إلا أن ذلك التجديد مقدمة ضرورية تسبق التمكين ، فتسهل مهماته ، وتساهم في إزالة معوقاته ، وقد أخفق الإسلاميون في أن يوظفوا ثمرات التجديد في حمل راية التمكين من جديد ، وحجج الاعتذار هنا لا تساعدهم ، ومنطق التسويغ لا يشفع لهم ؛ لأن فرصاً كثيرة ضاعت مع أن اقتناص فرصتها كان متاحاً لولا الاختلاف والارتجال .

 

 ? إخفاقات رغم الإمكانات : 

 

 بالإضافة إلى الإخفاق الكبير في إعادة التمكين للمسلمين رغم مرور عشرات السنين ، فإن تحت هذا الإخفاق إخفاقات أخرى ، فبالرغم من ضخامة كل ما سبق ذكره من إنجازات للعمل الإسلامي في العقود القليلة السابقة ، فإن تلك الإنجازات ستبدو متواضعة إذا وضعنا على خلفيتها بُعدين مهمين :  أحدهما : أن الإمكانيات الكامنة في الأمة كانت تسمح بأكبر من هذه النتائج والإنجازات .

  الثاني : أن عدم الوصول إلى تحقيق الغاية الكبرى ، وهي إقامة دولة الإسلام العالمية المُمكنة مرة أخرى ، وتطاول الفاصل الزمني بين عهدي الاستضعاف والتمكين ، يهيئ فرصة كبيرة للأعداء لكي يعيدوا الكرة ، ويسلبوا الإنجازات ، ويذهبوا بنا بعيداً عن تحقيق بقية الغايات .

  ومن هنا تظهر جسامة المهمة وعظم المسؤولية في وجوب تجاوز الطرق التقليدية في التعامل مع نوازلنا ، وبخاصة في الأوقات الراهنة ؛ حيث الظروف الاستثنائية التي تحتاج إلى جهود استثنائية .

  نحتاج - نحن الإسلاميين - أن نتعود على استحضار إخفاقاتنا ، كما نتغنى بنجاحاتنا ؛ فالنظر إلى النجاحات فقط يصيب بالغرور ، كما أن النظر إلى الإخفاقات فحسب يوقع في الإحباط ، ونحن المسلمين بحمد الله أكبرُ بديننا وإيماننا من أن نُحبط أو نيأس ؛ فإنه [ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ ](يوسف : 87) ، وإذا ذكرنا إخفاقاتنا فليس ذلك مدعاة لاستجلاب يأس أو استحضار إحباط ، ولكن لاستشعار حجم المشكلات وتطوير القدرات لحلها والتصدي لها .

  إننا إذا تأملنا النتائج الموضوعية لمسيرة جمهور الصحوة الإسلامية خلال ما مضى من عمرها ، سنرى كمّاً من الإخفاقات التي كان من الممكن تجاوزها في فترات السلامة النسبية الفائتة .

 فمن ذلك : 

?- إخفاق في تفعيل فقه الوفاق ووحدة القلوب بين الفصائل والتيارات بالرغم من التقارب النسبي بين كثير من المناهج مقارنة بما مضى ، وقد ترتب على ذلك تقصير في تحقيق حد أدنى من التعاون العملي المباشر بين تلك الفصائل في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية ، عملاً بشرعة البنيان المرصوص وفريضة الاعتصام بحبل الله .

  ?- تأخر في تفعيل دور جماعي للعلماء ، وتردد في تكوين مرجعية علمية عامة يرجع إليها المسلمون إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ، أو نزلت بهم كوارث عامة أو خاصة .

 ? - قلة التأصيل العلمي لمناهج التغيير الشرعية التي ابتليت بالخوض فيها العديد من الفصائل الإسلامية بلا ضوابط علمية ، سواء في العمل السياسي أو الجهادي أو الجماهيري .

  ?- ضعف الهمة في تجاوز العقبات المعطلة للعمل مثل الحزازات الحزبية والنزعات الإقليمية والنزغات العنصرية ، والتعامل معها وكأنها قدر سابق أو قضاء محتوم ، مع شح الوسائط الدعوية المشتركة والمبادرات الإصلاحية التي تذيب الفوارق وتكسر الحواجز النفسية بين الجماعات والتيارات المختلفة ، إضافة إلى شدة العناية بجوانب الفرقة والاختلاف ، على حساب الرعاية لجوانب الاتفاق والائتلاف .

  ?- غياب نقد الذات لحساب نقد الغير ، وقلة بلورة النقد الذاتي في حال وجوده إلى مراجعات جادة بدلاً من التراجعات الحادة .

  ?- اعتماد صيغة ردود الأفعال في التعاطي مع النوازل بعد نزولها بدلاً من المواجهة المدروسة لها عند وقوعها فضلاً عن التحسب لها قبل حدوثها .

  وإذا كان ما سبق ، أزمات داخلية واجهت العمل الإسلامي فلم يوفق في تجاوزها ؛ فإن هناك نازلات خارجية أخرى غلب على الإسلاميين تجاهلها ، مع أنهم هم الوحيدون الذين يعنيهم شأنها بعد ذهاب زمن الحلول الثورية والشعارات الوهمية .

  إن الوسط الإسلامي يشهد ما يشبه الغياب التام عن وضع تصورات نظرية أو عملية لكيفية التصدي المبكر لكوارث يتوقع وقوعها ، ونوازل يخطط الأعداء لإنزالها ، وليس غير الإسلاميين في وارد الاهتمام لها أو العمل لأجلها ، ولهذا فليس من المقبول منهم طي ملفاتها انتظاراً لحدوث موانع قدرية قد لا تكون مقدورة ، أو كرامات غيبية قد لا تكون مكتوبة ، خذ أمثلة على ذلك من مخططات ومؤامرات معلنة منشورة ؛ دعك مما هي غامضة مستورة :

? 1 - خطط الغزو لمزيد من البلدان العربية والإسلامية بذرائع مصطنعة ، كتلك التي حيكت شباكها للعراق ، حيث ستنفتح شهية الأمريكيين وحلفائهم لاستئناف برنامج الغزو إذا وجدوا مهمتهم سهلة في العراق ، وإذا ما استمر عدم الإجماع على موقف إسلامي فاعل وموحد مما يحدث فيها وفي أفغانستان .

 ? 2- الخطط اليهودية المبيتة منذ عقود لهدم المسجد الأقصى ، وبناء الهيكل اليهودي الثالث على أنقاضه ، تلك الخطط التي تشكلت لأجل تنفيذها أكثر من عشرين جماعة صهيونية ، يهودية أو نصرانية ؛ مع توزيع تلك الجماعات للتخصصات اللازمة لتنفيذ المخطط في الوقت المناسب ، وبالرغم من أن المتصدرين لتنفيذ هذا المخطط المعلن جماعات لا حكومات ؛ فإننا لم نسمع عن خطة واحدة مضادة لجماعة واحدة فضلاً عن حكومة واحدة أو هيئة عربية أو إسلامية أو عالمية واحدة لردع هؤلاء الشياطين النشطاء .

?  3 - البرنامج الصهيوني المدعوم أمريكياً وغربياً باستكمال خريطة ( إسرائيل الكبرى ) من النصف الغربي للعراق إلى النصف الشرقي من مصر ، ومن جنوب تركيا إلى شمال الجزيرة العربية على حدود المدينة المنورة ، تلك الأراضي التي قد يجد أهلها وعلى رأسهم الإسلاميون أنفسهم بين ليلة وضحاها في مواجهة مباشرة مع يهود أو نصارى ، دون أن يكونوا قد أعدوا من قبل للأمر عدته ، أو أخذوا له أهبته ، كما يحدث الآن لأهل العراق وأهل فلسطين وأهل أفغانستان .

 ? 4 - التوجه العارم نحو ضرب المفاهيم والقيم الإسلامية ، من خلال الإعلام والتعليم وتمييع ما سبق إحياؤه وتثبيته من قضايا مهمة تتعلق بالولاء والبراء والجهاد في سبيل الله وفريضة الحجاب ، وشرعة الحسبة والحكم بما أنزل الله ؛ حيث لم تتضح للإسلاميين خطة في مواجهة هذه الهجمة المرسومة قديماً والتي بدأ تطبيقها حديثاً .

 ? 5 - الحرب الأمريكية المفتوحة على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب ؛ حيث تكتفي الغالبية العظمى من الإسلاميين بالوقوف في أحد أبراج المراقبة عن بعد ، بانتظار مجيء الدور ، إما إدراجاً في قوائم الإرهاب ، أو تجميداً للأرصدة وتحديداً للأنشطة ، أو تهديداً بالتصدير إلى ( جوانتانامو ) .

 ? 6 - الإصرار من عموم الكفار على استهداف الحركات الإسلامية الجهادية المجمع على مشروعيتها ، وبذل كل الجهود في محاصرتها وخنقها ، بعد وصمها بالتطرف والإرهاب والخروج على الشرعية الدولية ، كما يحدث الآن ضد فصائل المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية ، والمقاومين الكشميريين و الأفغانيين وغيرهم من جماعات التصدي المشروع للعدوان على الحرمات والمقدسات .

 

 ? الإسلاميون ومعطيات عصر جديد : 

 

 عندما أعلن جورج بوش ( الأب ) عن قيام ما أسماه ( النظام العالمي الجديد ) بعد حرب الخليج الثانية ، لم يحالفه الحظ في إرساء معالم هذا النظام بسبب سقوطه السريع الذي حرمه من فترة رئاسية ثانية يُتم بها ما بدأه ، ولكن جورج الابن أراد أن يكمل نقص أبيه ، فشرعت الولايات المتحدة الأمريكية في عهده في رسم ملامح هذا النظام الجديد ، وتمخض هذا عن معطيات جديدة ، لا بد للعمل الإسلامي الذي سيستمر بإذن الله ألا يتجاهلها عند رسم برامجه الآنية ومخططاته الآتية المستقبلية ، ومما يخص المسلمين من هذا ( اللانظام ) ما يأتي : 

 أولاً : توجه العالم نحو نمط إدارة واحدة يكاد رئيس الولايات المتحدة فيها أن يكون ( رئيس العالم ) واتفاق هذا العالم شرقه وغربه مع الولايات المتحدة على ( شطب ) شيء اسمه نظام إسلامي ودولة تحكم بالشريعة وتقيم العقيدة مهما كان سبيل إقامتها ، سواء كان طريق مجيئها بالانتخابات النيابية ، أو الثورات الشعبية ، أو الانقلابات السلمية أو غير السلمية ، فلن ترضى الآن أمريكا ولا أوروبا ولا روسيا ولا حتى الصين بقيام مثل تلك الدولة وانضمامها للمجتمع الدولي ، اللهم إلا إذا كانت دولة إسلامية على الطريقة الأمريكية شبيهة بتلك التي قامت على الطريقة الروسية في الشيشان والتي بدأ العالم يعترف بها وبرئيسها العميل المعمم ( أحمد قديروف ) .

  إن الخطر الذي سيلاحق الدولة الإسلامية المؤمل قيامها ، لن يكون قانونياً فقط برفض ( الأمم المتحدة ) الاعتراف بها ، بل قد تواجه الحظر السياسي والحصار الاقتصادي ، والتربص العسكري كما حدث لدولة الطالبان وقبلها دولة الشيشان وما قد يحدث لدولة السودان ، وهنا نقول : هل من المناسب في ضوء ذلك أن يظل هدف إقامة الدولة الإسلامية النموذجية في هذه المرحلة على رأس أولويات الحركات الإسلامية في أنحاء العالم ، كما كان العهد في العهود الماضية بحيث تتمحور حولها البرامج وتتركز التحركات ؟! أم يتحول الجهد إلى إزالة العقبات من أمامها ، وتأسيس الأرض الصلبة لإنشائها ؟! 

ثانياً : انتهاء عصر الاستقلال بانتهاك مفهوم سيادة الدول بالمعنى القديم المعهود وخاصة الدول الإسلامية ، حيث برزت في السنوات القليلة الماضية ظاهرة التدخل المباشر في شؤون الدول الضعيفة ، وتوجيه سيادتها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً ، دون الرجوع في أحيان كثيرة إلى من يفترض أنهم ( المسؤولون ) في هذا البلد أو ذاك ، ولن نضرب المثل بما يحدث الآن في أفغانستان أو العراق ، فذلك أمر قد فُرغ منه ، بل انظر إلى ما يحدث في باكستان و إندونيسيا و السودان ، حيث تُفرض الحلول الأمريكية فرضاً ، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى انتهاك المجال الجوي لبعض الدول من أجل تعقب من تطلق عليهم أمريكا ( الإرهابيين ) ، وما أمر اليمن منا ببعيد عندما دخلت الطائرات الأمريكية لتعقب سيارة مدنية بها أشخاص تشتبه بهم ، ومثلما حدث عندما أغار الأمريكيون في عهد كلينتون على كل من السودان وأفغانستان دون مقدمات بزعم ضرب أهداف معادية .

  ثالثاً : التغيير الحاد في مفهوم ( سيادة القانون ) بما فيها القانون الدولي ؛ فمع ما ندين الله به من بطلان كل قانون بشري مخالف لشريعة الإسلام ، دولياً كان أو إقليمياً ، إلا أن تلك القوانين على عجزها عن تحقيق العدالة المطلوبة ، تقيَّد الآن ، لتكون شريعة الغاب أو الغرب هي سيدة الموقف ، بما فيها من تسلط وكبرياء وغطرسة ، لا تفهم إلا القوة ولا تعترف بحقوق الإنسان إلا إذا كان إنساناً غربياً أو بالأحرى نصرانياً أو يهودياً ! فأين سيادة القانون الدولي الآن مما يحدث في فلسطين ، وأين « سيادته » مما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان والبلقان وإندونيسيا والشيشان ؟!  الأمر مرشح لمزيد من الفوضى القانونية الدولية ، وخاصة أن أمريكا تمضي قُدماً في تطبيق مفهوم ( الحرب الوقائية ) و ( الضربات الاستباقية ) التي ستغير كل ما كان معهوداً من أعراف تتعلق بإعلان الحروب واستعداد الشعوب لدخولها قبل أن تقحم بها .

  إننا مقبلون فيما يبدو على عصر ( اللاقانون ) مع عصر ( اللانظام ) ، فإذا كان القانون الدولي يداس الآن بأقدام أمريكية ، فإن القوانين المحلية سيجري الجري فوقها لا مجرد دوسها ، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين ، ولذلك فإن الرهان على عودة الاستقرار في الساحات المتوترة ، لا ينبغي أن تفضل فيه الأسباب الخارجية عن الداخلية .

 

  رابعاً : تعاظم دور الجاسوسية في العالم باسم ( المخابرات ) ؛ فالحرب العالمية ضد ما يسمى بـ ( الإرهاب ) يبدو أنها ستحتاج إلى تجييش الجواسيس من مستوى الخفير إلى الوزير ، بل إلى رئيس الدولة ، وما لنا نذهب بعيداً وبوش الأكبر ، الذي كان رئيساً لأكبر دولة ، تولى المنصب الأكبر في قيادة الجاسوسية الأمريكية حيث كان رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية ( CIA ) قبل تولي الرئاسة .

 وكذلك فإن الدولة التي كانت تمثل القطب الثاني في العالم ( روسيا ) يترأسها الآن رجل الجاسوسية الروسية الضليع ( فلاديمير بوتين ) الذي كان ضابطاً في المخابرات السوفييتية ( KGB ) .

  ولهذا لم نستغرب ولن نستغرب أن تكون أشهر المبادرات والتحركات السياسية الخاصة بالشرق الأوسط في الوقت الراهن يديرها قادة في المخابرات ، من أمثال ( جورج تينت ) الذي تولى منصب وكالة المخابرات المركزية منذ عام 1996م والذي وضع منذ فترة فترة ما يعرف بخطة ( تينت ) .

  يبدو أننا أيضاً في عالمنا الإسلامي سنشهد بعد حقبة الحكومات العسكرية ، حقبة جديدة من الحكومات المخابراتية ! وهي حقبة سيحتاج فيها الإسلاميون ولا شك لطرق أخرى في التعامل مع الواقع .

 

  خامساً : تقلص دور الحكومات في العالم النامي وأغلبه إسلامي بعد أن كرست أحداث السنوات الأخيرة عجز أغلب تلك الحكومات عن مواجهة التحديات ، وهذا سيضاعف من مسؤولية الشعوب في تحمل أعبائها بنفسها ، والإسلاميون شاؤوا أم أبوا هم طليعة تلك الشعوب ، وهم قادتها الحقيقيون ، ومع ذلك ويا للمفارقة فهم المعنيون قبل غيرهم بالعداوة الصليبية واليهودية الراهنة ، ولا خيار لهم في تحمل مسؤولياتهم المزدوجة في حماية أنفسهم وحماية الأمة .

  سادساً : تحول وظيفة إنقاذ الأجيال إلى مهمة عسيرة ، في ظل اختراق الإعلام لخصوصيات الشعوب ، وهذا المعطى ليس خاصاً بالحرب الأمريكية على الإسلام وما تشكله من نظام دولي جديد ، بل هو من عوامل تغير الزمن ، وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ولكنه مؤثر على كل حال في أهم وظائف العمل الإسلامي وهو تربية الأجيال ؛ فبالأمس القريب كان الدعاة يتحدثون عن خطر ( الغزو الفكري ) وتأثيره الضار على الأجيال ، مع أن خطر الغزو الفكري وقتها ربما اقتصر على شرائح معينة تتعامل مع وسائل الثقافة والإعلام المخاطِبة للطبقة المتعلمة .

  أما اليوم فلم يعد الأمر أمر كتاب أو شريط أو فيلم ، وإنما أضحى طوفاناً من الفساد المبثوث عبر القنوات الفضائية والشبكات الحاسوبية ، أصبحت معه مهمة الدعاة بالغة الصعوبة في توسيع دائرة المنتمين للدعوة من الأجيال الجديدة ، بل إن الخطر لم يعد يحاصر الأطفال والفتيان والفتيات ، بل غدا يطارد الكبار أيضاً ، فأصبحنا بين خطرين : خطر العسر في المحافظة على مكتسبات عقود ماضية من شريحة الملتزمين بالدين بتآكل أطرافها ، وخطر المخاوف من تقلص الفرص في جلب شرائح جديدة إلى صفوف الملتزمين الجادين بسبب صعوبة التمسك بالدين في ظل انفجار تيار الفجور .

  بمعنى آخر : نحن نسير بسرعة متهورة نحو ظاهرة ( خفة الدين ) ، ولا بد للدعاة أن يعكفوا على إيجاد حلول لتلك النازلة ؛ لأن المراحل القادمة في مصير الأمة لا يصلح للتعامل معها خفاف الدين ، صغاراً أو كباراً .

  سابعاً : التحول من الهموم العامة إلى الهموم الخاصة ؛ فعلى مستوى المسلمين عموماً تكرست العزلة بين ما يسمى بـ ( العالم الإسلامي ) وبين ما يسمى بـ ( العالم العربي ) بفعل القوميات ، ثم تجذرت العزلة بين أجزاء كل عالم منهما بعد ذلك بفعل الوطنيات ؛ فالهَمُّ المحلي الآن هو منتهى اهتمام الجميع ، حتى إن بعضهم أضحى يقول : أنا ومن بعدي الطوفان ! ومن إفرازات هذه الظاهرة على الأرض ما يحدث الآن في فلسطين ؛ حيث جُردت قضيتها بشكل شبه نهائي من بُعدها العربي ، بعد فصلها عن بُعدها الإسلامي ، وأصبحت ( قضية العرب والمسلمين الأولى ) مجرد همٍّ فلسطيني ، وقس على ذلك الهم السوداني والأفغاني والشيشاني ، والبلقاني ؛ فالكل مشغول عن الكل بنفسه أثرة وشحاً ، أو عجزاً وضعفاً .

  وأخشى ما نخشاه أن تنتقل هذه العدوى إلى العمل الإسلامي ، فتصبح كل ساحة منكبة على نفسها ، منغلقة على ذاتها ، تاركة هموم غيرها وراء ظهورها ، وبخاصة عندما يكون لحمل تلك الهموم ضريبة لا يريد الكثيرون دفعها .

 

 ? ضعفنا وقوتهم :

  قد يكون المسلمون اليوم بالفعل أضعف من اللازم وهم مقبلون على منازلة ما ذكر من نوازل حاضرة ومستقبلة ، إلا أن ما عند الله تعالى من نواميس السنن ، كثيراً ما يجري بخلاف ما يظن البشر من عادات ومجريات الزمن ؛ فالضعيف قد يقوى بعوامل لم تكن مقدورة للبشر ولا منظورة ، والقوي قد يضعف بمستجدات مكتوبة وغير محسوبة .

  والذي أشعر به أن الله تعالى يُودِع قوة المسلمين اليوم في ضعفهم ، كما يضع ضعف أعدائهم في قوتهم ، كحال وحوش كبيرة ثقيلة كاسرة ، محصورة في ميدان محدود ، تطاردها طيور صغيرة عنيدة في فضاء غير محدود ، فتهزم تلك الضعاف الخفاف بطلاقتها وخفة مؤنتها ، تلكم الوحوش المحشورة في مرابض الأشر والبطر !  طابق - إن شئت - هذه الصورة المتخيلة على ما حدث مع فرسان الصحابة حينما خرجوا من جزيرة العرب خفافاً وثقالاً ، ينازلون الفرس ويناوشون الروم وغيرهم من طواغيت العالم ، فهزوا عروشهم ثم أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ، وطابق الصورة على ما كان قبل الإسلام من غلبة المستضعفين المطاردين من أتباع موسى - عليه السلام - لطاغية ذلك العصر فرعون ، حيث جعل الله ذله على أيديهم ونهايته أمام أعينهم حتى قبل أن يُكتب الجهاد عليهم : [ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ](القصص : 5-6) .

  ثم طابقها على ما كان بعد ذلك من قيادة داود الشاب - عليه السلام - لقومه المستضعفين المطرودين من أرضهم ، حيث جبر الله كسرهم فاقتحموا على الجبارين أبواب حصونهم : [ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ](المائدة : 23) .

 فحين مد داود يده وأمسك بقطعة الحجر ، وقذف بمقلاعه نحو الجبار جالوت ؛ كان هذا إيذاناً بتحول موازين القوى ، وتغير الأوضاع لدى قومه ، فتحولوا من شراذم تفر أمام الأعداء إلى جيوش نظامية حقيقية لها وجود .

  ولا تظن أخي القارئ أن زمان هزيمة الطغيان على أيدي المستضعفين من أهل الإيمان قد ولَّى ؛ فقد أرانا الله في عصرنا من هذا آيات ، ليس آخرها ما كان من انهزام إمبراطورية الإلحاد السوفييتي السابق ، ثم انهدام بنيانها وتفكك اتحادها ، تحت ضربات المستضعفين من المؤمنين من أنحاء الأرض آنذاك ، الذين جاؤوا في ذلك الوقت لنصرة إخوانهم الأفغان الذين استنصروهم في الدين ؛ فقد ادخر الله تعالى للمستضعفين منهم شرف إسقاط تلك القوة الطاغوتية الإلحادية الكبرى التي كانت تعد القوة العسكرية الأكبر في العالم وقتها ، هذا في حين لم يكن للمجاهدين فيه دولة فتحاصر ، ولا سفارات فتغلق ، ولا جيش نظامي فيدمر .

  صحيح أن أن أمريكا كان لها دور في الدعم من وراء ستار ، ولكن ذلك كان من تأييد المؤمنين بتسخير الكفار ، ثم انظر أيضاً إلى روسيا الصليبية الأرثوذكسية التي ورثت روسيا الإلحادية الشيوعية ؛ حيث أذل الله اتحادها الروسي الفيدرالي ، على أيدي المستضعفين الشيشانيين الذين لا يتجاوز عدد شعبهم 800 ألف نسمة ، في مقابل ما لا يقل عن 150 مليون نسمة هم سكان الاتحاد الروسي .

  ونعيد نظرك بعد ذلك إلى ما حدث ولا يزال يحدث في فلسطين ، وإلى ما حدث ولا يزال يحدث في العراق ، حيث تُغير الطيور الحرة الطليقة ، بغايات شريفة ومؤن خفيفة على الديناصورات ذات الترسانات ، فتدمي أنوفها ، وتغرس الشوك في عيونها ، وتعلن للعالم أن قول الله تعالى : [ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ](البقرة : 249) .

 لا يزال ، ولن يزال باقي الصلاحية في إحداث التغيير والفاعلية .

  ومع هذا ، لا نقول للمسلمين عامة ، والإسلاميين خاصة حوِّلوا العالم كله إلى ساحات حرب وميادين نزال ، لا ...

 ، فلا تزال الدنيا تتطلع إلى سماع صوت دعوتكم ، قبل سماع سوط سخطكم على المتآمرين وصريخ ثأركم من الجبارين ، لا يزال المسلمون والبشرية كلها معهم في أشد الحاجة إلى فقه العالم منكم ، وثقافة المفكر ، وحلم السياسي ، وصبر المربي ، ومثابرة الداعية ، بما لا يقل عن الحاجة إلى مصابرة المرابطين ، ورباطة جأش المجاهدين في المشروع من الميادين ، لم نسدَّ بعدُ نحن الإسلاميين وإن كثرنا فرض الكفاية لأمتنا[17]  من الأطباء الشرفاء والمهندسين الأكفاء ، والمعلمين والمهنيين الذين يكفون الأمة عار أن تظل عالة على عالم الكفاية ، ليس مطلوباً من الإسلاميين فقط أن يكونوا خير الأدلاَّء على طريق النجاة في الآخرة ، بل المطلوب منهم أيضاً أن يكونوا في طليعة المصلحين للدنيا ؛ فصلاح الدنيا ، ورعاية مصالح الخلق مطلب شرعي أصيل ، وغاية التشريع الإسلامي الذي تشرئب إلى تحقيقه وتطبيقه كافة الفصائل الإسلامية ؛ هي الإصلاح فيما يمنع وفيما يمنح ، فيما يُحل وفيما يُحرم ؛ لأن من أنزل هذا التشريع سبحانه لا يريد بالناس إلا بيان الحق والهداية إليه وإصلاح الدنيا والآخرة به .

 قال تعالى : [ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ](النساء : 26-27) .

  وشريعتنا شريعة القرآن تتوخى مع إصلاح الخلق ، رعاية مصالحهم ولا أدل على ذلك من أن قسماً من الواجبات فيها يتعلق بكل ما يعود بمصلحة عامة ، وهذا القسم يتمثل في الواجبات الكفائية التي توجب كل ما من شأنه عزة المسلمين واستغناؤهم عن غيرهم .

  والذين يظنون أن مهمة الإسلاميين هي تعليم الناس أحكام العبادات والمعاملات فقط ، هم مخطئون ؛ لأن عبادة العبد تعود إلى العبد ، ومعاملاته ترجع إليه ، والله تعالى غني عن العالمين ، فلم يجعل الشريعة قاصرة فقط على رفع درجة العباد في الآخرة ، بل شاملة لما يصلح شأنهم في الدنيا .

  يقول الإمام الشنقيطي - رحمه الله - : « وإنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله جل وعلا غني لذاته الغنى المطلق ، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة ، ولكنه جل شأنه يشرِّع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين إليه لا لأجل مصلحة تعود إليه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً »[18]  .

 

 ? وبعد : 

 لم تنته بعدُ النظرات في النوازل ومنازلتها ؛ لأن موضوعها أكبر من أن يستوعب بنظرة متأمل ، أو قلم كاتب ، في سطور وصفحات ، وإنما تحتاج إلى دراسات ودراسات ، ومع هذا فالأمر لا يمنع من مساهمات قد تفتح مجالاً لحوار ، أو تلفت نظراً لمراجعة نظرية أو عملية .

  إن الأزمات التي واجهها وسيواجهها العمل الإسلامي يظل علاجها داخلاً في إطار الممكن والمشروع ، أمَّا ما ليس ممكناً ولا مشروعاً من الأعمال ؛ فإنه يطيل أمد النوازل من جهة ، ويضيع الجهود ويفرق الصفوف ويقوي الأعداء من جهة أخرى ؛ ولهذا فإن المواءمة والموازنة بين الإمكانية والمشروعية في العمل الإسلامي ، وتصفية خلاصة إيجابية منها من بين ركام المشروعات المستحيلة وغير المشروعة ؛ تحتاج إلى وعاء يجمع خلاصة فقه وفكر وتجربة خلصاء هذه الأمة ، وهنا لا يحتاج الأمر فقط إلى معالجات فقهية لنوازلنا وإن كان الفقه مفتاح الحلول وإنما يحتاج إلى عمل مؤسسي بحثي شامل يتبناه الأثرياء ، ويشرف عليه العلماء يتخصص في رصد مشكلات الأمة ونوازلها ورصد أزمات العمل الإسلامي في التعامل معها ، وتحديد ضوابط سيره ، وتجديد الدماء في عروقه بمعرفة عوامل قوته وأسباب ضعفه ؛ فمن غير المعقول أن تعقم عقول أمة تقارب ربع سكان المعمورة عن حل مشكلات حاضر غير مستقر ، بانتظار مشكلات مستقبل غير واضح ، في زمن لا يمهل المهمل حتى ينشط ، ولا المتأخر حتى يتقدم ، صحيح أن المشوار طويل ، ولكن نهايته محسومة لصالح ديننا الأغر ، وحضارته الباقية بلا دولة في مواجهة دولة الباطل القائمة بلا حضارة [ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض ](الرعد : 17) .

 

[1] أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان ، ح (9) .

[2]  لا أعني بذلك فرقة القدرية بنوعيها : المغالي في إثبات القدر ، والمغالي في نفيه المعروفة في التاريخ ، فهذه لها شأن آخر .

[3]  انظر : تفسير ابن كثير ، و الرازي ، للآية 251 من سورة البقرة ، وتفسير الشوكاني ، للآية 40 من سورة الحج .

[4]  أُطلق على أتاتورك لقب (الغازي) ؛ ليصنعوا له مجداً زائفاً بدعوى هزيمته للإنجليز يسوِّغ له هدم الأمجاد الحقيقية للأمة .

[5]  انظر : الصراع الدولي في الشرق الأوسط ، زين نور الدين ، ص 73 ، وتاريخ الدولة العلية العثمانية ، لمحمد فريد وجدي .

[6] (1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/264) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228 ، 238) .

[7] أخرجه أحمد في مسنده ، (5/251) ، و ابن حبان في صحيحه حديث (257) ، و الحاكم في المستدرك (4/92) ، وصححه الألباني ، انظر : صحيح الجامع الصغير (2/905) ، حديث (5075) .

[8]  أخرجه مسلم في صحيحه ، حديث (3447) ، (3448) .

[9] (4) الطورانية هي : دعوة تنادي بتوحيد الشعوب الناطقة بإحدى اللغات التي تنتمي للغة التركية ، وهذه الشعوب تمتد كما يقولون من بحر الأدرياتيك وحتى سور الصين العظيم ، وأول من نفخ في كير الدعوى الطورانية العنصرية ، الكاتب الفرنسي اليهودي (ليون كوهون) ؛ حيث كتب يقول : (إن الطورانيين كانوا فيما مضى شعباً ذكياً ممتازاً ، لكن أخذ بالتقهقر والانحلال عندما تخلى عن الخصائص التي تميز بها في صحاري آسيا الوسطى واعتنق الإسلام ديناً وحضارة) ، ومن الطرائف أن مؤلف كتاب (التركية والاتحاد التركي) (تكين ألب) الذي أسس للنعرة الطورانية ، هو يهودي اسمه الحقيقي (ألبرت كوهين) . 

[10]  أخرجه البخاري ، رقم (3257) ، (4525) ، و مسلم ، رقم (4682) ، (4683) .

[11]  انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ، ص 5 - 6 ، والأحكام السلطانية للماوردي ، ص 5 وشرح صحيح مسلم ، للنووي ، (12/200) . 

[12]  نشوء القومية في تركيا ، تأليف ورد ستون ، ص 135 - 136 . 

[13] (8) انظر : الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية ، الدكتور وجيه كوثراني ، ص 26 .

[14]  انظر : الإسلام والعروبة والعلمانية ، الدكتور محمد عمارة ، ص 163 - 165 .

[15]  راجع ذلك في كتابه (الإمامة العظمى) . 

[16]   أخرجه أبو داود في سننه ، (3740) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (599) . 

[17]   الواجب الكفائي : هو الذي يدرك القائم به تأدية الفرص ونافلة الفضل ، ويخرج من تخلف عنه عن المآثم ، وهو الفرض الذي إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الكل ، وإذا قعد عنه الكل أثم الجميع ، انظر : الرسالة للإمام الشافعي ، ص 363 ، ومن أمثلته : استيعاب العلوم البحتة والتطبيقية إلى حد الاكتفاء عن الغير . 

[18]   تفسير أضواء البيان ، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، (4/651) .