كتب

فقه الوفاق .. متى نحييه .. ؟!

date

السبت 20 شوّال 1443هـ 21 مايو 2022مـ

 أصبح الإجماع الدولي على استهداف الإسلاميين أمراً محيراً ، وأصبح انحياز الملحدين إلي جانب النصارى ، وانسجام النصارى مع اليهود ، وتلاقي اليهود مع الوثنيين ، واتفاق أهل النفاق مع كل هؤلاء على ضرب الإسلام وإذلال المسلمين ؛ من المحن الدهماء ، والفتن التي تدع الحليم حيران ، فحتى الدعوات السلمية ، والجهود الخيرية ، والمقاومات المشروعة للاحتلال في مثل فلسطين و الشيشان و الفلبين و العراق و أفغانستان ، أصبح كل ذلك محرَّماً مجرَّماً ، ومعارضاً مطارداً !  إنه إجماع غير مسبوق للاعتداء على المسلمين ؛ فقد كان الأعداء يتناوبون ذلك الاعتداء على بعض الأطراف ولكنهم يَدَعون بعضها ، ويصادمون بلداً ويصالحون آخر ، أما اليوم فهم مجمعون ومجتمعون على الحرب والضرب في كل حدب وصوب [ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ]( الذاريات : 53 ) .
  ولكن دهشتنا وحيرتنا ، وانزعاجنا واستغرابنا من ذلك ( الإجماع والاتفاق ) لا يدانيه في الدهشة والانزعاج ، والحيرة والاستغراب ، إلا ما يقابله ما يشبه ( الإجماع ) - من هؤلاء المستهدَفين - على عدم الاجتماع ، من شِبه الاتفاق منهم على عدم الاتفاق .
 لا أقصد على مستوى الزعامات والقيادات فقط ؛ فذلك أمر قد كثر الكلام فيه ، وسبق التعرض له ، ولكن أقصد على مستوى القواعد العريضة ، والبُنى التحتية لهؤلاء الإسلاميين المستهدَفين .
  انظر حولك ترَ عجباً : جهوداً مبعثرة ، وإمكانات مهدرة ، مع صفوف متناثرة ، وقلوب متناكرة ! .. ما هذا يا أمة الإسلام ؟! أفي مثل ذلك الليل البهيم نظل نسهر على التخاصم والتنافر ، وننام على التنازع والتدابر ؟! أين الصف المرصوص ، أين قلب الرجل الواحد ، وتداعي الجسد الواحد ، وخفض الجناح ولين الجانب ، والتآخي والتصافي والتراحم والتواد ؟! حقاً لقد صنع الشقاق والجفاء منا غثاء ، حتى تعاوت علينا كلاب الأرض ، وتعاونت علينا ذئابها ، وصدق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، قالوا : أوَ مِنْ قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل أنتم كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل »[1] [1] ، نعم نحن كثير كثير .... ولكن الشقاق والجفاء حوَّلنا إلى ذلك الغثاء .

 * هناك مشكلة : 
 
لقد وُفقت الصحوة الإسلامية في تجاوز عقبات كثيرة في أثناء مسيرتها في العقود الأخيرة ، فأحرزت إنجازات ، وانتزعت نجاحات ، واختطت طريقها وسط كثير من العراقيل والعقابيل بتوفيق وسداد .
  ولكننا يجب أن نعترف أنها أخفقت ...
 نعم أخفقت في تأمين الحد الأدنى من وحدة الأمة ، بتقصيرها في بذل الحد الأدنى من العوامل « الشرعية » لوحدة هذه الأمة ، لا على المستوى العام فقط ، بل على المستوى الخاص أيضاً مستوى الإسلاميين العاملين .
  إنني أزعم أن هناك قسماً كبيراً من الشريعة التي نتنادى بتطبيقها وإقامة أحكامها ، نقوم نحن الإسلاميين إلا من رحم الله بتجافيه والإهمال فيه ، وهو ذلك القسم الذي يشمل الأحكام والهدايات والآداب التي تتضمن تأليف القلوب وتوحيد الصفوف ؛ فوحدة هذه الأمة منهجياً وقلبياً ، مطلب من مطالب الشريعة كبير ، ومقصد من مقاصد الإصلاح عظيم ، ولا أدري ؛ كيف خلت مناهج أكثر الجماعات الإسلامية إن لم تكن كلها من مراعاة تحقيق ذلك المقصد في الواقع العملي ؟!  صحيح أنه كانت هناك دائماً مساحة للكلام على ( الوحدة الإسلامية ) من الناحية النظرية ، ولكنها من الناحية العملية كانت توظف في الغالب لصالح الوحدة الحزبية أو الفكرية أو التنظيمية ، ولن أدلل على ذلك بأكثر من شهادة الواقع على ذلك ، مما يعرف الجميع تفاصيله .

* معاتبات ( أخوية ) : 
 
 « المسلم أخو المسلم » [2] هذه مقولة نبوية ، وشِرعة إلهية ، وهي مع ذلك بدهية أولية من بدهيات الإسلام ، ليست من مسائل الخلاف الوعر أو البحث الدقيق .
 ولكن تعالوا ننظر في واقعنا - نحن الإسلاميين - : هل ينظر كل منا إلى الآخر هذه النظرة ، وهل يطبق معه هذه البدهية ؛ فـ « لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره » ؟!

  * « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى » [3] ، كلمات مضيئة من مشكاة النور النبوي ؛ فهل تربت الأجيال في الفصائل والتجمعات ، على ذلك الخُلق السامي مع ( كل المؤمنين ) ، ولو كانوا مخالفين في « الانتماء » ، أو مغايرين في « الفكر » ؟!  * ثم .. ما حقيقة هذا « الانتماء » ، عندما يتعارض مع الانتماء المعقود في السماء ؟ وما قيمة ذلك « الفكر » الذي لا ينطلق من الفقه القرآني والهدى الرسولي عندما يدعو ذلك الفكر إلى قطيعة وجدانية بين المؤمنين الذين « تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم » [4] .

  * أمْرُ الله لهذه الأمة بالاعتصام بحبله تكليف للعامة والخاصة ؛ فكيف ننادي في العامة بالاجتماع تحت راية الإسلام ، ونحن غارقون في الفرقة ، والناس يروننا ونحن حملة الراية أوْلى الأمة بذلك الاجتماع ؟  * « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضَه وشبك بين أصابعه » [2] ، هل أقمنا البنيان على مبدأ الأخوة والمحبة في الله ، حتى يشد بعضه بعضاً ، أم أقيم ذلك البنيان على أسس من المحبة في .... ، وفي ...... ، وفي .... ، وفي .... حتى أصبحت مبانينا يهد بعضها بعضاً ، بدلاً من أن يشد بعضها بعضاً ؟! 
 
* تنادينا بأهمية الحوار ، حتى نادى بعضنا بضرورة الحوار مع ( الآخر ) يعني الكفار والحوار مع ( الآخر ) من المارقين و العلمانيين الفجار ، وقد سمعنا كثيراً عن حوارات ( التقارب بين الأديان ) و ( الحوار الإسلامي المسيحي ) وحوارات ( التقارب بين السنة و الشيعة ) والحوارات بين الإسلاميين والقوميين و الليبراليين ، ولكن : أين حوار الإسلاميين مع الإسلاميين ؟ حوار السُّنة مع السُّنة ؟ حوارات جماعاتها مع جماعاتها ، وقياداتها مع قياداتها ، ودعاتها مع دعاتها ؟ أم أن الحوار مع ( الأخ ) مؤخر دائماً حتى ينتهي الحوار مع ( الآخر ) ؟!
 
 * نتحسس في الكلام كثيراً ونتدسس في الأسلوب غالباً ونهادن أو نداهن في العبارة أحياناً إذا كان الكلام مع ( الآخر ) ولو كان هذا الآخر منافقاً معلوم النفاق ، أو فاجراً يكرمه الناس مخافة شره ، أو كافراً لا حرمة له ولا ذمة ، خوفاً على شعوره ( الرقيق ) أن يخدش ، وحسه ( المرهف ) أن يمس ، أما إذا جاء الحديث مع ، أو عن ، أو إلى ذلك الأخ ( المخالف ) أو فعند الكثيرين منا إلا من رحم الله فلا تحسس ولا تدسس ولا مجاملة ولا حتى حسن مجادلة ، مع أن حسن المجادلة مطلوب مع أهل الكتاب ، فكيف بمن جعلته الشريعة في منزلة الأقربين من الأهل والأصحاب ؟! 
 
* كلما ندب دعاة الوفاق أنفسهم لمحاولة إصلاح ذات البين بين خواص الأمة ، انبرى لهم دعاة الشقاق متهمين إياهم بأنهم أصحاب نهج ( عاطفي ) ، أو أن الواحد منهم مجرد ( واعظ ) لا يرقى إلى مستوى فوق الخطب والمواعظ !! نقول : هبهم ( عاطفيين ) فمتى أصبح شأن المؤمنين في ( تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم ) أمراً مستهجناً ؟ وهل تستنزل الرحمة إلا بذلك التراحم وتلك العاطفة فيما بين المسلمين ؟ ثم .. ماذا يُنقم من ( الموعظة ) ، ولماذا يُهوَّن من شأنها ، مع أن القرآن كله ( موعظة ) وكذلك التوراة المنزلة من عند الله ، والإنجيل المنزل من عند الله .
 قال سبحانه عن القرآن : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ ]( يونس : 57 ) ، وقال عن التوراة : [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْء ]( الأعراف : 145 ) ، وقال عن الإنجيل : [ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ]( المائدة : 46 ) ، وليست المواعظ في الرقائق والسلوكيات فحسب بل إن الأمر بالنظر في جوهر الرسالة وهو التوحيد موعظة ، والنهي عن الشرك موعظة ، قال سبحانه : [ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ]( سبأ : 46 ) ، وقال : [ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ]( لقمان : 13 ) .

 * فلسفة ( ليس في الإمكان أحسن مما كان ) تكاد تحكم النظرة « التجميدية » للواقع الإسلامي ، على ما هو عليه من تشرذم وفرقة ، مع أن النظرة الشرعية « التجديدية » تدعو دائماً لإحياء ما اندرس من معالم الدين ، ومنها وفي مقدمتها بعد التوحيد عقيدة الولاء والبراء ، التي هي أوثق عُرى الإيمان .

* شرعيون لا قدريون :  نحن نؤمن بالقدر ، لكننا لا نؤمن « بالقدرية » فالقدرية ( العقدية ) بنوعيها [3] ، ابتداع في الدين ، وشذوذ في الاعتقاد ، عافى الله تعالى منه أهل السنة والجماعة ، ولكن نوعاً جديداً من ( القدرية الفكرية ) بدأ ينتشر بين المسلمين ، يشيع بينهم نوعاً من الهزيمة ، ولوناً من السلبية ، تقعدهم عن العمل بتكاليف الشريعة ومحكمات الأحكام احتجاجاً بالقدر ؛ وذلك في صنوف من الأقاويل ،
 
 منها مثلاً : أن هزيمة أعداء الأمة والتمكين للإسلام لن يكون إلا في زمان المهدي ، ومنها : أن انتصارنا على اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال .. !
ومنها : وهذا هو المقصود هنا أن وحدة الأمة لن تتحقق أبداً ؛ لأن القدر محتوم بدوام الافتراق ؛ فلهذا فإن من العبث كما يقولون السعي في الوفاق والاتفاق ، بل إن بعضهم تنطع وعدَّ الدعاء بجمع كلمة المسلمين من التعدي في الدعاء ؛ لأن ذلك يتعارض مع القدر المعلوم باستحالة هذا الجمع !! ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم ، لعلموا أن الاعتصام بحبل الله حكم شرعي للتنفيذ لا حكم قدري للتعجيز ، أو من باب ( التكليف بما لا يطاق ) ؛ فاجتماع قلوب المسلمين على العمل بالدين هو الدين ، وتفرقهم وتنازعهم وفرقتهم بمزاعم قدرية أو حزبية أو مصلحية هو هدم لأهم عوامل التمكين ؛ ألم يأمر الله تعالى بالاجتماع في قوله سبحانه : [ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ]( آل عمران : 103 ) ؟ إن هذه الآية أصل في فقه الوفاق ، وقاعدة من قواعد العلاقات بين المسلمين ، ولو كان الاجتماع والوفاق مستحيلاً قدراً ، لما جاء الأمر به شرعاً .
 قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية : « يعني بذلك جل ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعاً ، يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق ، والتسليم لأمر الله »[4]  ، ولو كان ذلك الاجتماع غير مقدور لما فُسرت الآية بذلك .

 وقال المفسر ابن عاشور - رحمه الله - عند كلامه على هذه الآية : « هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية » وعلل ذلك بأنها تشتمل في أولها على النهي عن الموت على غير الإسلام ، بما يستوجب النهي عن مفارقة الإسلام طول الحياة ، وأنها تشتمل كذلك على الأمر الشرعي بالاعتصام وعدم التفرق بما يستوجب الأخذ بأسباب ذلك وقال - رحمه الله - : « أمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماءً »[5]  فأين هذا من قول من يقول : إن الفرقة قدر غالب ، وضربة لازب ؟!  إن الأمر بالاجتماع هو أمر بمسبباته من الأوامر الشرعية ، كما أن النهي عن الفُرقة هو نهي عن مسبباتها من المناهي الشرعية ، ولذلك قال العلامة أبو السعود في تفسير الآية نفسها : [ وَلاَ تَفَرَّقُوا ]( آل عمران : 103 ) : « لا تُحدِثوا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة » [6] .

  وما يوجب التفرق ويزيل الألفة ، نعرفه جميعاً في كثير من المجالس والمنتديات ، وفي أكثر المجادلات والحوارات الخالية من أدب الحوار الإسلامي ، وإذا كان بذل الأسباب لتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين واجباً شرعياً ، فإن مع ذلك الواجب واجباً آخر أوجب ، وهو أن يكون هذا الإخاء مبنياً على الالتفاف حول ثوابت هذا الدين ومحكماته .
 والدعوة إلى وحدة العمل الإسلامي هنا ليست دعوة إلى تأليف القلوب على مفهوم مقلوب ، أو منهج مبتدع ، أو اعوجاج ظاهر عن الأصول الثابتة ؛ ولكنها دعوة إلى التآلف على الهدى المحكم ، والثوابت المجمع عليها[7] ؛ وهذه مساحتها أكبر بكثير من مساحة المسائل المختلف فيها .
 وأكثر ما تعج به الساحة الإسلامية من خلافات واختلافات ، إنما هو في مسائل قد تختلف فيها الأنظار ويسوغ فيها الاختلاف .
  ولوحدة الجماعة المسلمة كما يقول سيد قطب - رحمه الله - « ركيزتان تقوم عليها لتحقق وجودها وتؤدي دورها : الركيزة الأولى هي الإيمان والتقوى المأمور بها في قوله تعالى : [ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ]( آل عمران : 102 ) ، والركيزة الثانية هي ركيزة الأخوة .. الأخوة في الله على منهج الله ، لتحقيق منهج الله ؛ فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام ، من الركيزة الأولى .. أساسها الاعتصام بحبل الله ، أي عهده ونهجه ودينه ، وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر »[8] .

  وقد يقول قائل : وهل حققت التجمعات الإسلامية في العالم الركيزة الأولى حتى تنتقل إلى الركيزة الثانية ؟
 والجواب : إن الفصائل التي ندعو إلى التوافق القلبي والتوفيق المنهجي بينها ؛ هي تلك التي لم تخرج عن ( الجماعة ) بالمعنى الشرعي ، أي التي لم تخالف الأصول العامة لأهل السنة والجماعة ، وهذا حال أكثر الفصائل المشهورة والمعنية بالكلام هنا فيما نعلم فهؤلاء وحدتهم المنهجية متقاربة ، ولكنهم فرطوا كثيراً في وحدتهم الأخوية الوجدانية .
 أما الزاعمون بأن اجتماع الكلمة ووحدة القلوب من الممنوع قدراً ، بناء على أحاديث الافتراق ، وتفرد الطائفة الناجية ، فنقول لهم : حديثنا هو عن اجتماع فصائل العاملين من تلك الطائفة ، وليس عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً من الطوائف البدعية المخالفة في أصول الاعتقاد ؛ فلهؤلاء شأن آخر ، ثم إنه لا يمكننا أن نضرب الشرع بالقدر ، للهروب من الشرع احتجاجاً بالقدر ؛ فهل إذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه الأمة قدراً في التشبه بأعدائها في قوله : « لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم » [9].  هل يعني ذلك أننا غير مأمورين شرعاً بترك هذا التشبه ؟! وهل يعني تقدير وقوع الفتن ألاَّ يفر المرء من الفتن ؟ أو أن تقدير غربة الدين يعفينا من العمل على إزالة تلك الغربة عن الدين ؟
 
 إن الوحدة بين المسلمين فريضة توصل إليها فرائض ، وشرعة تتضمن العديد من التشريعات ؛ فالأمر بالأخوة الإيمانية هو أمر بالعديد من شعب الإيمان الموصلة لها ، هو أمر بخفض الجناح ، وحسن الظن ، والعفو والصفح ، وصنائع المعروف ، وإبداء النصيحة ، وقبول النصيحة ، والرفق في النصيحة ، والإخلاص في النصيحة ، والستر على العيوب ، والرفق في الأفعال واللين في الأقوال ، والدفع بالتي هي أحسن ، والصبر على التي هي أقوم من مواقف العدل وسياسة الإحسان ، إلى غير ذلك من العديد والعديد من شعب الإيمان .
  أكاد أجزم بأن أكثر شعب الإيمان توصلنا إلى الاعتصام بحبل الله ، وكيف لا ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها أهم روابط الإيمان في قوله عليه الصلاة والسلام : « أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله ، والحب في الله والبغض في الله » [10][13] .
  وأكاد أجزم - في الوقت نفسه - بأن الشقاق لا يحصل إلا بعد الوقوع في العديد من شعب العصيان التي يزينها الشيطان ليوقع المسلمين في الافتراق والشقاق .

  الحاضر الغائب ( لعنه الله ) :  
 
أعني به ذلك العدو المبين الذي قال الله تعالى عنه : [ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ ]( فاطر : 6 ) ؛ فمن عظيم عداوته ، وشدة أذاه لأولياء الرحمن أنه يتربص بأُخوَّتهم ، ويستهدف محبتهم ، ويحرص لعنه الله على أن ينال حظه من مجموع المؤمنين بالمعاصي الجماعية ، بعد أن ينال من آحادهم بالمخالفات الفردية ، وذلك بأن يضل الجميع عن أعظم محاب الله ، وهو الحب في الله ، فينشر البغضاء ، ويشيع الكراهية ، ويبث الأحقاد والضغائن والإحن ، ليظفر عليه اللعنة من وراء ذلك بكم كبير من الكبائر ...
 نعم الكبائر والآثام التي يقع فيها المتدابرون والمتباغضون والمتنازعون المتفرقون .

  تصور معي شخصاً ، لا يقيم علاقته مع إخوانه المسلمين على الميزان الشرعي للأخوة الإيمانية ، فيقع كما نشاهد كثيراً في بغض أخ له بغير حق ، وفي عداوته لغير الله ، إنه سيحوز بلا شك ، من وراء ذلك الخلل الشرعي في علاقته بأخيه ، عدداً غير قليل من كبائر الذنوب وموبقات الآثام ، وقد لا يشعر بذلك لتزيين الشيطان له سوء عمله حتى يراه حسناً .
  - إنه قد يحتقره ، واحتقار المسلم من الكبائر « بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم » [11] .
  - وقد يهجره هجراً غير شرعي فوق ثلاث ، وذلك لا يحل له ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام »[12] [15] .
  - وقد يعتدي عليه في عرضه أو ماله أو نفسه ، وذلك من الكبائر [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ]( البقرة : 190 ) .
  - وقد يسبه أو يتشاجر معه وذلك من الكبائر ؛ لأن « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »[13] [16] .
  - وقد يسيء به الظن ؛ وذلك لا يحل بحال ؛ لأن [ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ]( الحجرات : 12 ) .
  - وهو في الغالب سيستحل غيبته ويقع في عرضه ، وذلك من الكبائر ؛ لأن الله قال : [ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ]( الحجرات : 12 ) .
  - وهو لا بد واقع في همزه ولمزه ، وذلك من الكبائر ؛ لأن الله قال : [ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لّمَزَةٍ ]( الهمزة : 1 ) ، وقال : [ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُم ]( الحجرات : 11 ) .
  - وأخونا هذا أو أختنا سيقعان غالباً في السخرية من إخوانهم أو أخواتهن ، وذلك من الإثم ؛ لأن الله تعالى يقول : [ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ ]( الحجرات : 11 ) .
  - وقد يصعِّر أحدهم خده لأخيه ، أو يتكبر عليه ، أو يمنع عنه الماعون ، أو يخذله أو يسلمه ، أو يوشي به أو يتجسس عليه أو يؤذيه بأي نوع متعمدٍ من الأذى ، وكل ذلك من الكبائر أو الآثام التي كثر التحذير منها في نصوص الشريعة ، والتي أجمل الله ذمها وذم أهلها في قوله سبحانه : [ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ]( الأحزاب : 58 ) .

  وهنا يفرح الشيطان ، ويرقص طرباً ، وهو يتفرج على هؤلاء الإخوة الأعداء الذين قد يقنع منهم بتلك الذنوب من كبائر القلوب ، عوضاً عن إيقاعهم في كبائر الجوارح التي يعلم الملعون أن التورع عنها أسهل من التورع عن ذنوب القلوب .
  لن نعجب بعد ذلك ، عندما نعلم أن حظ إبليس اللعين من الإيقاع بين المسلمين يكفيه في نفث عداوته ، وإنفاذ أحقاده ؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ، ولكن في التحريش بينهم »[14] ، إن ذلك التحريش قد يوقعه الشيطان بين أهل الصلاة ، بحزازات حزبية ، أو خلافات فكرية ، أو فروق طبقية ، أو عرقية أو عنصرية ، وقد يوقعهم في ذلك بسبب حواجز وهمية أو أحقاد متوارثة تاريخية ، لا بل قد يحرش بين المصلين بمجرد اختلافات ( جغرافية ) ليس لأحد فيها اختيار ، فيجري على ألسنة المخدوعين به عبارات الاستثقال والاحتقار لأهل بلد ، بل لجهة في البلد الواحد دون جهة كأن يسخر مثلاً من أهل ( الجنوب ) في بلدٍ ما ، أو سكان ( الشمال ) في أرض ما ، كما قد يغري أهل ( الشرق ) بالتكبر على أهل ( الغرب ) أو العكس ، فتنطلق على ألسنة البعض عبارات النتن الكريه الذي كرم الله المؤمنين عنه ، وكرَّههم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخوضوا فيه ، في قوله عليه الصلاة والسلام لمن كادوا أن يفتنوا بالتحريشات الجاهلية : « ما بال دعوى الجاهلية ؟! دعوها فإنها منتنة »[15] ، يقصد بذلك صلى الله عليه وسلم التعالي بالأحساب والأنساب ، والتميز بالأسماء والألقاب .

  أين موقع التحصين من تلك المخاطر في مناهجنا التربوية ، وبرامجنا التعليمية والتثقيفية ؟! أظن أن أمامنا الكثير من الوقت ، حتى تحل ( ثقافة الإخاء ) أو ( فقه الوفاق ) في قلوب وعقول الناشئين والمُنشِّئين ؛ لأن الثقافة المعاكسة ، والفكر المخالف في ذلك ، قد كاد يستفرد بالعقول والقلوب حيناً من الدهر ، حتى لقد أثمر هذا الخلل أحوالاً من الخصام شبه العام في غير ما قضية ، بما يستوجب بحكم الشرع والدين إجراء مصالحة شاملة بين أنصار الشرع وأهل الدين ترغم أنف الشيطان ، وتحبط خطط الأعداء .
 
  الشعيرة الغائبة :
 
 لا بد من عزمه أكيدة على إحباط خطط الشياطين في التفريق بين المؤمنين ، لا بد من أن ينتدب قوم من العقلاء والصلحاء لمهمة إصلاح ذات البين بين خاصة الأمة فضلاً عن عامتها .
 لا بد من بذل الجهد واستفراغ الوسع في الإصلاح بين طوائفها وفصائلها وجماعاتها ومنظماتها .
 وما نقوله ليس اختراعاً لاقتراح ، بل هو تذكير بشعيرة منسية ، يبدو أن الخلافات شغلتنا عنها ، والمزايدات زهدتنا فيها .
  إن الإصلاح بين المؤمنين فريضة أخرى لا تقل أهمية عن فريضة الاعتصام بحبل الله ؛ فقد خاطب الله تعالى خير أجيال البشر في زمان خير البرية صلى الله عليه وسلم آمراً إياهم بأن يتقوا الله في الإصلاح ، ويندبوا له من يقوم به ، فقال جل شأنه : [ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ]( الأنفال : 1 ) ، وهل هناك أقدر على الإصلاح في الأمة منا نحن الإسلاميين ؟ وهل هناك أحوج إلى الإصلاح في الأمة منا نحن الإسلاميين ؟ إن الآية أمر إلهي لنا ، وللأمة جميعاً بأن نبادر إلى رفع أسباب الشقاق ، وإحلال أسباب الوفاق .
 يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية : [ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ]( الأنفال : 1 ) ، « أي : واتقوا الله في أموركم ، وأصلحوا فيما بينكم ، ولا تظالموا ، ولا تشاجروا ؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه » ثم أورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله : « هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات البين »[16]  .

  وانتداب طائفة من الإسلاميين العاملين لبذل جهد إصلاحي بين الفصائل الإسلامية ؛ ليس كما يظن البعض كتابة على الرمال أو نطحاً للجبال ؛ فهذا من تسويلات الشيطان وتحريشاته العنيدة ، بل إن مجهودات المصالحة لا بد أن تعود بخير ؛ لأن الله تعالى قال في شأن الزوجين : [ وَالصُّلْحُ خَيْر ]( النساء : 128 ) ؛ فما بالنا بخيرية الصلح بين جماعتين أو اتجاهين أو أكثر أو أقل ؟
 إن إصلاح ذات البين لا بد أن تكون له آثاره وثماره ، وقد يكون نصيب المصلحين ، ما يعود على أشخاصهم هم من نفع وبر فضلاً عن دفع الشر والضر ؛ فالله تعالى يقول : [ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ]( النساء : 114 ) ، فهل يُزهد في هذا الأجر العظيم ، وهل يفرط حريص على الخير في تلك الفضيلة الكبرى التي جاء الخبر المعصوم بأنها الأفضل بين الأفضل من الأعمال ؟ قال صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا بلى ! قال : صلاح ذات البين ؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين »[17]  .
 بلى والله .. تحلق الدين وتميت الشعور .

 هذا البراء ، فأين الولاء .. ؟
 
 لا أدري ، لماذا أشعر كثيراً بأننا شطرنا تلك القضية في واقعنا الإسلامي إلى شطرين : أحدهما : فاعل حيْ ، والثاني : خامل ضامر .
 أعني بذلك أن مسائل الولاء ، لم تحظ دعوياً وعلمياً بذاك الاهتمام الذي نالته مسائل البراء ، بل تكاد قضايا الولاء الشرعي للمؤمنين بأحكامه ومسائله تذوب وتتوارى خلف قضايا البراءة الشرعية من الكافرين ، مع أن هذه لا تقل أهمية عن تلك ، ولهذا اقترنت هذه دائماً بتلك ؛ فهل السبب في ذلك هو أن الأعداء أفلحوا في إحياء مشاعرنا في البراءة منهم بكثرة اعتدائهم وكشفهم عن أحقادهم ؟! ...

 ربما ، وهل ساعد على ذلك أن علماء دُعاة الصحوة ركزوا كثيراً في طروحاتهم وأدبياتهم على إحياء البراء قبل الولاء والإخاء ؟! ...
 قد يكون .
  الحقيقة الضائعة وسط ذلك ، هي أن البراء بلا ولاء لن يجدي كثيراً في إنهاضنا من كبواتنا ؛ فقضية الولاء ليست ذات بعد عقدي فقط ، ولكن لها أيضاً بُعد واقعي ، نحياه منذ عهود طويلة ، فأنا أزعم ، بل دعني أقول : أجزم بأن التفريط في أسباب الولاء والإخاء بين المسلمين هو تفريط في رأس مالنا ، وفي أكبر أسباب استجلاب النصر لنا .

  فعندما امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أمدَّه بكل أسباب النصرة والتأييد جعل كل تلك الأسباب : من تنزيل الملائكة ، وتثبيت الأقدام ، وإنزال الغيث ، وتنزل السكينة على قلوب المؤمنين ، مع إلقاء الرعب في قلوب الكافرين جعل ذلك كله في كفة ، وجعل التأييد بالمؤمنين المتآخين المتآلفين في كفة أخرى ، فقال سبحانه : [ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]( الأنفال : 62-63 ) ؛ فالله تعالى أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بمؤيدات كونية وعلى رأسها الإمداد بالملائكة ، ومؤيدات شرعية وعلى رأسها التأييد بالمؤمنين المتآلفين الذين ألف بينهم هذا الدين بتشريعاته السامية .
 قال الشيخ السعدي - رحمه الله - في تفسيره لتلك الآية : « أي أعانك بمعونة سماوية ، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء ، ومعونة بالمؤمنين ، بأن قيضهم لنصرك [ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ]فاجتمعوا وائتلفوا وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم » [18]
  إن روح التحقير أو التنفير من شأن ذلك الاجتماع والائتلاف ، هو تفجير لأكبر مستودعات القوة لدى المسلمين ، وبعث لأقوى عوامل الفتنة فيما بينهم ، مهما كان المسمى الذي تتسمى به تلك الروح .
 قال ابن تيمية - رحمه الله - : « كل ما أوجب فتنة وفرقة ، فليس من الدين ، سواء كان قولاً أو فعلاً » [19] .
  والذين يطوِّلون ذيل البراء ، حتى يمدونه إلى ساحة الولاء وبيت الإخاء بذرائع خلافية ، وفي مسائل قد تكون اجتهادية ، هؤلاء ينزلون ألواناً من العداوة إلى غير محلها ، مع أننا لسنا أحراراً في أفعال قلوبنا من محبة أو بغضاء ، بل نحن متعبدون بألا نحب إلا لله ، ولا نبغض إلا لله .
  وتعدي الحدود الشرعية في ذلك وبخاصة في المسائل الاجتهادية لون من البغي وصنف من العدوان .
 قال ابن تيمية - رحمه الله - : « الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي ، لا لمجرد الاجتهاد ، كما قال تعالى : [ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ]( آل عمران : 19 ) ، وقال : [ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ]( الأنعام : 159 ) ، وقال : [ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ]( آل عمران : 105 ) .
  وقد أرسى شيخ الإسلام قاعدة ذهبية في التعامل بين المسلمين على أساس مراعاة الموالاة الإيمانية التي عقدها الله تعالى بينهم في قوله عز وجل : [ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ]( الحجرات : 10 ) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « كونوا عباد الله إخواناً » [20] ، فقال عليه رحمة الله : « على المؤمن أن يعادي في الله ، ويوالي في الله ، فإن كان هناك مؤمن ، فعليه أن يواليه وإن ظلمه ؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ؛ قال تعالى : [ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ]( الحجرات : 9 ) فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي ، وأمر بالإصلاح بينهم ؛ فليتدبر المؤمن : أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك ؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل ، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله ، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه ، والإكرام والثواب لأوليائه ، والإهانة والعقاب لأعدائه ، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر ، وفجور وطاعة ، وسنة وبدعة ، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر » [21]

 وقد حرص الإمام - رحمه الله - على بيان الفصل التام بين طبيعة التعامل مع الكافرين بمقتضى عقيدة البراء ، والتعامل مع المؤمنين بمقتضى عقيدة الولاء ، مبيناً أنه لا تنقطع الموالاة عن مؤمن أبداً ، فقال : « الحمد والذم ، والحب والبغض ، والموالاة والمعاداة ، إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه ، وسلطانه كتابه ؛ فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان ، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان »[22] ، وحذر شيخ الإسلام أيضاً من إطلاق العنان للنفس لتحب من تشاء وتبغض من تشاء دون تقيد بسلطان القرآن ومنهاج السنة ، فقال : « من الناس من يكون حبه وبغضه ، وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ، لا بحسب محبة الله ورسوله ، وبغض الله ورسوله ؛ وهذا نوع من الهوى ، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : [ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه ]( القصص : 50 ) »[23] .
  إن إحياء الموالاة بين المؤمنين ، هو استدعاء لموجبات ولاية الله ، وولاية الله موجبة لرحمته ونصرته ، وفي الوقت نفسه فإن التنكر لتلك الموالاة للمؤمنين ، والتماسها عند غير أهلها من موجبات الحرمان من الولاية الإلهية .عياذاً بالله .
  قال سبحانه : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ]( المائدة : 54 ) .
  قال حَبر الأمة ، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : « من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان ، وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً »[24]  .
 
 أقَْدِم ولا تتردد !
 
 الإخاء روح يسري ، وفقه يُشاع ، وثقافة تنتشر ، وعلى العكس تماماً ، فإن الجفاء له روحه وفكره وثقافته ، ولكل من روح الإخاء والجفاء أهل ، ولكل منهما أنصار ورموز ومنظِّرون ومندوبون ، مسوِّقون وموزِّعون .
 وبقدر ما تُخدم قضايا الإصلاح يجيء الإصلاح ، وبقدر ما تخدم جهود الفرقة ، تعم الفرقة ، وفي أوضاعنا المعاصرة ، عندي ما يشبه اليقين ، بأن الجهود التي تبذل من أجل الوفاق والائتلاف ، لا تبلغ عشر معشار ما بذل ولا يزال يبذل من جهود الشقاق والاختلاف ، وإذا كان قد فرط من أمرنا في ذلك ما فرط ، مما لا يرضي الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا أقل من المسارعة الآن إلى تدارك ما فُرط فيه ؛ قبل أن ينفرط ما تبقى من عقودنا وعهودنا ، ويسقط ما تبقى من شعاراتنا ومشاريعنا ؛ فالظرف قاهر ، والأزمات محكمة ، والعدو من كل صنف أصبحوا كصف واحد برأي واحد في تحدٍ سافر ، وعناد خطير ، هم فيه أولياء متناصرون ، وحلفاء متعاضدون : [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ]( الأنفال : 73 ) .
  نعم ! فساد كبير ، أن يتحد أعداؤنا ونتفرق ، وفساد كبير أن يتعاونوا على الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى ، وفساد كبير أن يكونوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ، ولا نكون على أتقى قلب رجل واحد منا .
  هل بقي هناك متسع للتردد في أهمية وإمكانية ، بل فرضية الانتداب للإصلاح ؟!
اندب نفسك أخي من الآن ، وشارك بعقلك وقلبك وروحك في إشاعة روح الوفاق والاتفاق ، فذاك عمل تغييري كبير ، ودور عظيم في ( العمل الإسلامي ) لا يحتاج إلى تنظيم أو جماعة ، أو تنظير أو تقعير ؛ فالأمر في غاية البساطة : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره » اعلم أهمية ذلك واعمل بذلك ، وادع الجميع من حولك إلى إحياء ذلك الهدي النبوي العظيم « لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره . التقوى ها هنا ، التقوى ها هنا »[25] .لعل الله أن يجعلنا وإياك من المتقين .

  إن روح الإخاء تلتقي مع صفاء الفطرة ، وإنه بقدر الغيرة على الدين يكون الحرص على ائتلاف أهل الدين ، وإن من علامة سلامة الفكر والعقل سلامة الصدر ، ومن أمارات رجاحة الرأي الشغف بالوفاق والنفور من الشقاق ، وأنت أيها القارئ ! نعم أنت أنت ... لا أراك إلا من الموفورين حظاً في صفاء الفطرة وسلامة الصدر ورجاحة العقل ، فليكن لك رأي ، ولتكن لك مشاركة في دفع تيار المصالحة الإسلامية والولاية الإيمانية نصحاً لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم .

 وقد يقول قائل :
 
 وما علاقة هذا الكلام بملف ( التغيير القادم ) أو موضوع ( تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير ) ؟ وهنا أقول : إن كل خطط الأعداء قد وضعت على افتراض بقاء المسلمين عامة ، والإسلاميين منهم خاصة في حال من الوهن والتشرذم والفشل الناتج عن التنازع والتخالف والفرقة ؛ فهم يعلمون عنا من خلال المنافقين بيننا كل ذلك ، ولهذا فهم يخططون وينفذون وهم آمنون من أي ( مفاجآت ) تضامنية على المدى القريب والمتوسط والبعيد ، ظانين أن هذه الأمة قد فُرغ منها ، فأيس عوامها من زعمائها ، وانفصلت قمتها عن قاعدتها على المستوى العام والخاص .
  فدورنا الآن أن نغير خطنا في الفرقة والشقاق إلى خطط للوحدة والألفة والوفاق .

 وحتى لا نكون ( قدريين ) أو ( عاطفيين ) أو ( واعظين ) فقط !
 
فهذه بعض خطوات ( عملية ) يمكن أن نفتتح بها عهداً جديداً لمرحلة جديدة لعمل إسلامي قائم على أسس الإخاء والتناصح والتراحم :
 
  1 - انتصاب جمع من أهل العلم والدعوة والفكر ، من أنحاء مختلفة ، لمهمة وضع ورقة عمل ، لما يمكن أن يكون ( ميثاق عمل إسلامي ) يوضح بصورة علمية منهجية الخطوط العريضة التي ينبغي أن يتوافق العاملون في أهل السنة جميعاً على الالتقاء حولها ، مع بيان ما يجوز وما لا يجوز الاختلاف حوله ، وإبراز ماهية خلاف التنوع الجائز المحمود ، وخلاف التضاد المحرم المذموم ، وأخلاقيات المسلم عند وقوع الاختلاف ونحو ذلك ، على أن تنطلق هذه الورقة من أساس راسخ قائم على علمي أصول الفقه وأصول الاعتقاد .

  2 - إبراز أهم الدراسات الجادة في فقه الخلاف ، وأدب الحوار ، وأصول الجدال بالحسنى ، واستخلاص أهم ما يمكن توظيفه ( عملياً ) من تلك الدراسات في تنقية الأجواء الإسلامية ، والمسارعة إلى ما يمكن أن يكون ( حملة مصالحة ) علمية وإعلامية ، ترتكز على مفاهيم الوفاق والاتفاق والأخوة في ظل ( عقيدة ) الولاء والبراء ، و ( شريعة ) الاعتصام بحبل الله ، و ( شعيرة ) إصلاح ذات البين و ( سلوك ) المحبة والإخاء ، وذلك لدفع تيار عام في الأمة يدعو إلى مصالحة إسلامية ، وأتصور أن العديد من منابر الدعوة ، ودور النشر ، ووسائل الإعلام الإسلامي المقروءة والمسموعة والمشاهدة ، يمكن أن يقوم القائمون عليها بدور فاعل في ذلك ، يحتسبون فيه الأجر ، ويساهمون من خلال ذلك في المسيرة التي طالما طالب الناصحون للأمة بتفعيلها وهي ( ترشيد الصحوة الإسلامية ) .

  3 - إضافة بند جديد إلى ما اشتهر مؤخراً بعمليات ( المراجعة ) بحيث تنطلق من ذلك البند عملية ( مراجعة ) جديدة وجادة للبرامج التربوية في التجمعات الإسلامية ، لتنقيتها من كل ما لا يرضي الله ورسوله ، من شوائب التعصب والتحزب ، وآفات الفرقة والاختلاف ، وهي موجودة بنسب متفاوتة في تلك البرامج ، ولكن مراجعتها تحتاج فقط إلى نوع من التجرد والإخلاص .

  4 - عند صياغة برامج تربوية جديدة ؛ فمن المهم إعطاء قضية الولاء والإخاء والتآلف بين المسلمين ، مساحتها الكبيرة الجديرة بها ، حتى تتربى الأجيال الناشئة على غير ما تربت عليه الأجيال التي سبقتها ، وسيساعد على تلك النقطة ما جاء في النقطة رقم ( 2 ) .
 فمن غير المنتظر أن تزول ( آثار العدوان ) الشيطاني على أُخوتنا الإسلامية بين يوم وليلة ، بحدث قدري بحت كما سبقت الإشارة ولكنه التواصي بالحق والصبر ، حتى تنمو ثمرات البر والتقوى .

  5 - من المهم إجراء دراسات محايدة لفهم خلفيات الخلافيات ، ورصد العوامل التاريخية والشخصية فيها ؛ فكثير من الخلافات متوارثة دون تمحيص ، والعديد منها أسبابه نفسية قبل أن تكون فقهية أو فكرية ، وبالإمكان حصر مسائل الاختلاف الحقيقية بين فصائل أهل السنة المعاصرين ، وإخضاعها لبحوث علمية جادة ، أو استصدار فتاوى معتمدة فيها ، من أهل العلم والفتوى ، لتقليل مساحات الاختلاف كلما أمكن .

  6 - يمكن استحداث منابر متخصصة في شؤون العمل الإسلامي تسعى في جهود ( التقريب ) بين أهل السنة ؛ بحيث يكون بعضها على شكل مجلات ، أو برامج أو مواقع ، أو على الأقل زوايا خاصة بذلك ، تسمح بفتح حوار يدار بأسلوب راقٍ ، ونفوس صافية ، أو مستعدة للصفاء .

  أعرف أن هناك العديد والعديد مما يمكن إضافته من مقترحات لدى المهتمين ، من أجل جهد أكبر في إحياء الوفاق الإسلامي ، ولعل جهودنا جميعاً تتضافر حسبة لله للمساهمة في تغيير الخطط ، قبل أن تدهمنا جميعاً خطط التغيير .


----------------------------------------------
[1]
[2]  (5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، ح (459) ، ومسلم في كتاب البر والصلة ، ح (4684) ، والإمام أحمد في مسنده ، ح (944) .
[3]  (6) القدرية الاعتقادية تمثلها فرقتان ؛ فهناك القدرية المغالون في إثبات القدر ، القائلون بأن الإنسان مجبر على أفعاله (مسيَّر) وهم أتباع الجهم بن صفوان ، ويعرفون أيضاً بالجبرية ، وهناك القدرية النافون للقدر ، القائلون بأن الإنسان يستقل بعمله في الإرادة والقدرة ، وهذه القدرية هي التي دعا إليها معبد الجهني و غيلان الدمشقي
[4] .  تفسير الطبري للآية : 103 من سورة آل عمران ، والنقل من طبعة دار الحديث بالقاهرة (3/21) .
[5]   تفسير التحرير والتنوير ، للطاهر بن عاشور ، (3/30 ، 31) .
[6]  (9) تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ، للعلامة أبي السعود (1/526) .
[7]  (10) من أحسن ما ألف في ذلك كتاب الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي ، للدكتور صلاح الصاوي .
[8]   في ظلال القرآن ، لسيد قطب (1/ 436) .
[9]  (12) أخرجه البخاري في الاعتصام ، ح (6775) .
[10]   أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، ح (17793) ، وقال الألباني قوي بطرقه وحسن بشواهده ، انظر : السلسة الصحيحة ، (998 ، 1728) .
[11]   أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، ح (5605) ، ومسلم في البر والصلة ، ح (4650) .
[12]   أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، ح (5605) ، ومسلم في البر والصلة ، ح (4641) .
[13]  (16) أخرجه الترمذي في البر والصلة ، ح (1860) ، وأحمد في مسنده ، ح (14288) وقال الألباني صحيح (السلسلة الصحيحة/2947) .
[14](17) أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، ح (4525) ، ومسلم في البر والصلة ، ح (4682) .
[15] (18) تفسير ابن كثير للآية 1 من سورة الأنفال ، (1/316) طبعة الندوة العالمية .
[16] (19) أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع ، ح (2432) ، وقال الألباني : حسن لغيره ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب ، ح (2827) .
[17] (20) أخرجه مسلم في البر والصلة ، ح (4677) .
[18]  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، للشيخ السعدي ، (3/186) .
[19] (22) الاستقامة ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، (1/39) .
[20] (23) سبق تخريجه
[21]  مجموع الفتاوى ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، (28/208) .
[22] (25) مجموع الفتاوى ، (28/201) .
[23] (26) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، (1/354) .
[24] (27) حلية الأولياء ، لأبي نعيم ، (1/312) وجامع العلوم والحكم ، ص 30
[25]  مسلم حديث (4650) ، البر والصلة .