كتب

بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا

date

السبت 20 شوّال 1443هـ 21 مايو 2022مـ

في الحياة من حولنا، وفي المستجدات التي تمور بها الدنيا أمامنا، نرى آيات وآيات، تكون قبل وقوعها شبيهة بالمستحيلات، وتبدو بعد حدوثها قريبة من وقوع المعجزات، ولكن إلفَ الإنسان للشيء الباهر بعد وقوعه يقلل من الانبهار به، ويحدُّ من وقع الشعور بأن المعجزة معجزة والآية آية، حتى تبدو الأمور التي كانت بالأمس أشبه بالخوارق، أموراً عادية، بل ربما تجد من يجادل في عظمتها وفي جليل دلالتها.
خذ مثلاً أصناف وأشكال المخترعات التي تموج بها الحياة في عصرنا.. إنها كانت قبل قرن واحد، أو عدة عقود، من الأحلام والأوهام التي ربما رُمي من زعم قدرة البشر على صنعها بالخرافة والدّجل، فلما وُجدت ورآها الناس وعايشوها خرجت عن وصف الإعجاز الخيالي إلى الإنجاز الاعتيادي، فالإنسان المعاصر صار يهيم في الهواء، ويطير على سطح الماء، ويتنقل صوته وصورته عبر الفضاء، وربما نسي هذا الإنسان أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي علم الإنسان ما لم يعلم.
قسْ على ذلك المستجدات الحادثة على خريطة التاريخ المعاصر، وقارنْها بما كان عليه الحال، لا نقول قبل قرون، بل قبل عقود.. لا بل قبل سنين، ترَ عجباً!

* فمن كان يصدق أن تشهد السنون القلائل الماضية، عودة الاستعمار واستهداف العالم الإسلامي بغارات جديدة، تستهدف صراحةً أوطان المسلمين في عصر شعارات التعايش السلمي، والتفاهم الأممي والمنظمات الدولية المصنوعة من أجل (السلام العالمي)؟

* من كان يتخيل أن تبدأ الجولة الاستعمارية الجديدة من الشرق، باجتياح الروس لأفغانستان، ليتّحد العالم الإسلامي بعدها ـ بلا قيادة واحدة ـ ضد الاتحاد السوفييتي حتى تكون ثمرة هذا الاتحاد الإسلامي إسقاط الاتحاد الإلحادي، الذي يُعدّ الكيان الأكبر في التاريخ الذي قام على فكرة إنكار وجود إله للكون؟!
? ومن كان يظن أن تتزامن مع هذه الملحمة نهضة وصحوة إسلامية عالمية، ظلّت تتزايد وتتفاعل حتى أصبحت بالفعل تجديداً جديداً على رأس مئة عام، تصديقاً لخبر المعصوم #؟

* ومن كان يتصور أن دولة اليهود التي حازت ترسانات السلاح من كل نوع، تعجز عن قهر فتية فلسطين شبه العزّل، بعد أن هزم اليهود في حروب ثلاثة متوالية جيوش العرب مجتمعة؟

* ومن كان يخمِّن أن يبدأ مع ذلك مسلسل سقوط الأصنام القـومية، والزعـامـات الثورية والدمى العلمانية، شرقية كانت أو غربية، لتسلِّم الأمة قيادها من جديد لقادة غير متوّجين من الإسلاميين، في مجال الفكر والفقه، والنظر السياسي والتنظير الإستراتيجي والعسكري في كل ميادين المجابهة الكبيرة التي تولى العلمانيون عنها يوم الزحف؟

* ومن كان يحدث نفسه، أن يأتي الدور بهذه السرعة على القطب الثاني الذي أصبح قطباً وحيداً في قيادة العالم (أمريكا) لتدخل هي الأخرى في ركب الدول الاستعمارية بعدما ظن الناس أن عهود الاستعمار قد ولّت إلى غير رجعة، وليتحول (النظام الدولي الجديد) الذي دعا إليه بوش الأب، إلى استعمار عالمي جديد في عهد بوش الابن، ولتدخل الدنيا مع مجيئه بوتيرة متسارعة إلى مقدمات صراع الحضارات الذي يريدون له أن يفضي إلى نهاية التاريخ!

* إن في ذلك لآية:

أطلْـتُ ـ نـوعاً ما ـ فيما سبق ـ في التعريج على الذكريات أو التذكيرات ؛ لأنبِّه إلى أننا نمرُّ بحدث جلل، وكائنة عظيمة، أخشى أن تذهب كثرة الإمساس فيها بالإحساس بها، والتهيؤ لتبعاتها، ألا وهي: الهزيمة الجسمية التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق القريب لأعتى قوة في التاريخ، مدعومة بتحالف دولي، وتواطؤ عالمي، حيث تجيء مقدمات تلك الهزيمة ـ ويا للعجب! ـ على يد أناس لا يجمع بينهم ـ بعد الإسلام ـ إلا الحصار والإفقار والمطاردة والاستضعاف، في أرض طال أسرها في سجن البعث لتخرج منه إلى فضاء الفوضى بلا جيش ولا شرطة ولا سلطة.
كل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة مقبلة على الإدبار من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري، من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم.

لقد تحدث العالم كثيراً عن تورط الولايات المتحدة في حرب «فيتنام»، وكيف أن شعب ذلك البلد الصغير الفقير، استطاع أن يجبر ثاني قوة في العالم على الانسحاب تحت وقع ضرباته ولسعاته. وقد سجلت الشعوب بطولات هذا الشعب الثائر ـ رغم وثنيته وشيوعيته ـ لا لشيء، إلا لأنه لم يخنع ولم يخضع، بل هبَّ لردِّ العدوان وصد الغارة، وعُدّ هذا في وقته من الكفاح المشروع الذي تكتلت بسببه قوى عالمية وإقليمية للوقوف مع المعتدى عليه ضد المعتدين، فالفيتاميون ـ بخلاف العراقيين ـ كانت لهم حكومة معترف بها وثوار يدعمونها، ومعسكر شرقي كامل يقف خلفها يضم الاتحاد السوفييتي والصين والدول الشيوعية.
لكن انظر إلى العراق اليوم: ما هو ذلك المعسكر الدولي الذي يقف مع المقاومين فيه..؟! من هي تلك الكتلة الشرقية أو الغربية أو التحالف الذي يرمي بثقله معهم..؟! من هي تلك المنظمات الدولية التي تنصفهم أو العربية التي تنصرهم؟ وما حجم الهيئات أو التجمعات أو حتى الجماعات الإسلامية التي تقف معهم، ولا تقف ضدهم..؟!
إن المقاومين في العراق ـ ومنذ بدأ العدوان ـ بدؤوا وحدهم يقاتلون باسم الله من كفر بالله واعتدى على خلق الله، فلم يجـدوا نصيـراً أو معيناً سوى الله، ثم بعض الشرائح القليلة فــي الأمـة، ومـع هـذا.. نـرى الأعـداء المتجـبريـن يتـورطـون ثم يرتبكون ثم يتراجعون.. وها هم اليوم يتنادون بحتمية الخروج، ويتقاذفون التهم في التسبب بتلك الورطة الكبرى!!

إن هذا ـ وأيم اللهِ ـ آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعود الله الذي قال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، نعـم! إن الفـئة القلـيلة التـي لا يـزيـد عـددهـا عـن بضـعة عشـرات مـن الآلاف فـي مواجـهة مـئـة وسـتـين ألـفاً مـن الأمريكيين مع من معهم من الحلفاء، ونحو مئة ألف من العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيـش أو الشـرطة التـي ركبـها ودرّبها وخطط لها المحتل على عينه ولأجل مصـلحته، كل هـؤلاء فـي مـواجهة نُـزَّاغ مفـرقين، بلا صولة ولا دولة، ولا كيان سياسي ولا جيـش عسكري ولا مصدر اقتصادي... واللهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [النحل: 13].

ونحن نقول: إذا قدَّر الله للكيان القاهر (أمريكا) أن يُقهَر على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فستكون هذه هي المرة الثانية في أقل من عقد ونصف، التي يرى العالم فيها خيرية أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي العين، بعد أن يكون الله ـ تعالى ـ قد جعل على أيديها إذلال أكبر قوتين في التاريخ المعاصر، وهما:
الاتحاد السوفييتي والاتحاد الأمريكي، دون أن يكون لأمتنا أي اتحاد، ليكون ذلك آية للمؤمنين، وليكون تجديداً لعهد الفخار والاقتدار الذي أسقط فيه المسلمون الأوائل إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من خمسة وعشرين عاماً، ليصدق بهذا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره»(1).

ولكن دون ذلك وقبل اكتماله تضحيات وتحديات، فلم يكن انتصار المؤمنين يوماً بلا مقابل، ولم يكن اندحار الكافرين بلا ثمن باهظ من الدماء والأشلاء وجيش جرّار من الأسرى والسجناء والشهداء، ولكن مع الفارق العظيم بين من يضحون لأجل الله، ومن يصدون عن سبيل الله ويصبحون ويمسون في حرب مع الله ومع أولياء الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وابتغاء القوم، وتتبع مكائدهم، والوقوف في وجه طوفانهم، لم يكـن بالأمـر السـهل أو اليـسير التـكاليف، فلنـكن على ذكر ـ حتى لا ننسى ـ كيف سار المجاهدون في مشوار (ابتغاء القـوم) دون وهـن، رغـم الألـم والتنكيل والتخذيل، حتى قام من وسط ركام الهزيمة أولئك القوم الذين يردون اليوم الهزيمة على من أراد أن يلحقها بعموم المسلمين.

* أمريكا: نصر رخيص... وهزيمة باهظة:

بات معلوماً للعالم أن إزاحة صدام حسين لم تكن سبباً وحيداً في فكرة غزو العراق، بدليل أن الأمريكيين لم يصبهم ضرره قبل الحرب، ولم يؤرقهم خطره بعدها، وأصبح واضحاً أن أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصار الشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، لم تكن هي الأخرى سبباً حقيقياً لتلك الحرب، وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر، وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة، كان مجرد هراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك «فويزلي كلارك» المرشح الديمقراطي السابق للرئـاسة الأمريكية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)، وقد كان «كلارك» قائداً عاماً لقوات الحلف الأطلسي الذي تسيطر عليه أمريكا. ويدل أيضاً على أن قرار الغزو قد اتخذ قبل أحداث سبتمبر تصريحات وزير الخزانة الأمريكي الأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): إن قرار الغزو اتخذته الإدارة الأمريكية قبل ضربات القاعدة، وهو ما يذكر أيضاً بالتقارير المتعددة التي أشارت إلى أن قرار ضرب أفغانستـان قـد اتخذ قـبل هـذه الضـربات، بـل حـدث فعـلـياً أن استهدفت بصواريخ كروز في نهايات عهد «بيل كلينتون».
وقد تبين أن للغزو أهدافاً أخرى، لم تكن خافية على المراقبين والمهتمين، وعلى رأسها ضم النفط المخزون في العراق إلى جانب النفط في قزوين بالقرب من أفغانستان، إلى نفط الخليج، ريثما يتم بطريقة أو بأخرى الاستيلاء على مخزون نفط إيران، إضافة إلى هدف رئيس آخر وراء الغزو وهو تأمين مستقبل (إسرائيل) أو بالأحرى (نصف إسرائيل) من تهديدات على شاكلة توعدات صدام لها بالحرق عندما قال: «سأحرق نصف إسرائيل»! ومن تهديداته بتحرير القدس، عندما أعد لتحريرها كما أشيع جيشاً باسمها يبلغ قوامه نصف مليون متطوع!
أما الهدف الأبعد من وراء ذلك فهو ما تواتر عن عزم الإدارة الأمريكية الجديدة ذات القيادة المزدوجة من الإنجيليين النصارى والمحافظين اليهود الجدد، على البدء الفعلي في تنفيذ مشروع بوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) الذي اختاروا الشرق الأوسط ليكون ساحة ابتدائية لتنفيذه، واختاروا العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه، فيصبح ذلك المشروع الإمبراطوري على هذا هو الهدف الرئيسي الجامع في داخله لكل الأهداف الفرعية والجزئية.
ومشروع بهذه الضخامة والجسامة، كان يستحق أن تحشد الولايات المتحدة لأجله الحشود، وترصد الميزانيات، وتستنفر الحلفاء، حتى تكشف أنها أنفقت للاستعداد للغزو قبل أن يبدأ أربعمائة وخمسين مليار دولار.
وكتم العالم أنفاسه بانتظار أن ينتحر مغول العصر على أبواب بغداد ـ كما توعد صدام ـ ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتسـببت عملـيات (الصـدمة والترويع) التي بدأت بها الحرب في إصابة العالم الإسلامي كله ـ لا العراق فحسب ـ بالصدمة والترويع، وجعلت الأنظمة والحكومات ـ بل الشعوب ـ تتحسس الأرض من تحتها، وتتحسب للدور الآتي عليها، بعد أن أنجز الأمريكيون نصراً خاطفاً في حرب سريعة ضد ما كان يشكِّل أقوى قوة عربية في المنطقة، استطاعت أن تذل كبرياء زعماء الثورة «الإسلامية» الإيرانية التي كانت تستعد للوثوب على دول الجوار!

وانفتحت شهية الأمريكيين، وانطلقوا مسارعين إلى تأمين الفريسة وإعدادها كوجبة شهية تتبعها وجبات، وإنجازٍ سهلٍ يقود إلى إنجازات، وتتابعت الخطوات:

* فور احتلال بغداد أصدر الأمريكيون المحتلون قرارات بتفكيك كل أجهزة الدولة العراقية البعثية، من جيش وشرطة ووزارات واستخبارات.

* شرعوا في تكوين أجهزة بديلة عميلة عبر مراحل متعددة، كان أولها الإعلان عن إنشاء مجلس الحكم الانتقالي برئاسة اليهودي الأمريكي (جاي جارنر)، ثم خلفه الاستخباراتي العريق (بول بريمر) الذي عمل على اجتذاب كل العناصر المأجورة ليشكل بها وضعاً جديداً.

* أُعلن عن تشكيل مجلس للوزراء دون وزارات، بحيث يُختار الأشخاص أولاً، لينشئ كل وزير وزارته بالتعاون مع مستشار أمريكي، هو الوزير الحقيقي الذي يؤسس سياسات الاحتلال في «وزارة التحرير»!

* نظراً لأهمية تأمين هذا المشروع التآمري الوليد، كان لا بد من إنشاء جهاز شرطة عميل، يسهر على أمن الأمريكيين مضحياً بمستقبل العراق وأهله.

* تزامن مع ذلك سعي آخر لإنشاء جيش جديد، قوامه مئتا ألف جندي، لا لحماية الثغور والدفاع عن الحدود من الخارج؛ بل لتنفيذ العمليات المشتركة مع الأمريكيين ضد المقاومة في الداخل.

* ولإضفاء الشرعية على هذه التمثيلية، أعلن الاحتلال تشـكيل لجـنة «قـانونـية» لصيـاغة دسـتور عراقي جديد، وضـع أسسـه وفـق التـصور الأمريـكي، اليهـودي العراقي (نوح فيلدمان) ذو الجنسية الإسرائيلية الأمريكية المشتركة ليضمن هذا الدستور ألا يكون العراق إسلامياً.. لا ولا عربياً، بل عراق عراك طائفي، ونزاع مذهبي يضمن بقاء بنائه هشّاً ومفتقراً للاحتلال، ومهيّأ لأعاصير «الفوضى الخلاَّقة» التي تريد أمريكا اللعب عليها.

* ثم عُين الرافضي العلماني الجاسوس، الجامع بين تلك الظلمات الثلاث «إياد علاوي»؛ ليكون أول رئيس لمجلس وزراء معيَّن من قِبَل الاحتلال، ثم عُين (غازي الياور)؛ ليكون أول رئيس للعراق «المستقل» في ظل الاحتلال!

* مع الوقت شرع الاحتلال في تجسيد التقسيم الطائفي، فأعلن عن تنظيم انتخابات على أسس طائفية، اضطر معها السُّنة أن يقاطعوا الانتخابات، لتكون النتيجة تشكيل وزارة جديدة، غالبيتها من الشيعة المشايعين للأمريكيين والرافضين لأي تعاون إلا معهم أو مع إيران.
وفي ظل هذه القفزات المتسارعة لتثبيت الاحتلال بدعوى الاستـقلال، وجـد العراقيـون الشرفاء أن العدو ليس واحداً، بل هم مجموع من متحالف من الألداء، ومع أن مقاومة هذا الأخـطبوط بدأت مبكـرةً في أسـرع إفـاقة بعد أكـبر مصـيبة، إلا أن المجــاهدين المقـاومين بـدت أمـامهم تحديات وعقبات كان لا بد من مواجهتها جميعاً؛ لأن إهمال شيء منها سيعني إخفاق المشروع المقاوم برمّته.

لقد وجدوا أنفسهم أمام واجب مركَّب، يحوي داخله العديد من الواجبات التي لن ينتدب أحد لحلِّها، ما لم يقفوا هم بأنفسهم لأجلها، متوكلين محتسبين، فأمامهم قوى الاحتلال الذي قال قادته: إنهم جاؤوا ليبقوا، وضمن ذلك تحديات كبيرة:

منها: الإصرار على محاولات إضفاء الشرعية على هذا الاحتلال من خلال حكومات عميلة تتكلم باسم العراقيين، وتتصرف لمصالح أجنبية أو شخصية أو طائفية.
ومنها: جهود إسباغ الشرعية عربياً وإسلامياً على حكومة الاحتلال عبر إقامة العلاقات وإنشاء السفارات.
ومنها: شبح التقسيم الذي وضعت بذوره في ثنايا الدستور الذي أصرت أمريكا وعملاؤها على تمريره.
ومنها: إشكالية التنسيق بين الخطط العسكرية والمشاريع السياسية، والتصدي لمحاولة الاحتلال وعزل كل منهما عن الآخر.
ومنها: إيجاد مواطئ أقدام ونقاط ارتكاز تنطلق منها المقاومة وتفيء إليها، مع ما يحتاجه ذلك من جهود مطلوبة لإدارة هذه النقاط أو المناطق التي يمكن السيطرة عليها.

وقد جابهت المقاومة هذه التحديات بتحركات، تطورت عبر مراحل، سلمت كل منها إلى الأخرى، فبدأت بُعيد الغزو بمناوشة المحتلين؛ لتكوين الخبرات وتنشئة العناصر القادرة على المواجهة، ثم بدأت بتنظيم هجومات تكتيكية ضمن حالة الدفع العام للصائل المعتدي، ورتبت بعدها للانتقال إلى خطة الهجوم الإستراتيجي الذي يحوّل الخصم إلى موقع الدفاع، ثم جرى العمل وفق سياسة استنزاف العدو وإفقاده القدرة على الدفاع، لينتقل المجاهدون بعد ذلك إلى تكثيف المطاردة والإنهاك؛ لحرمان المعتدي مستقبلاً من الظهور بمظهر المنتصر، أو حتى المنسحب انسحاباً آمناً، أما المتعاونون مع الأعداء فقد اعتمد المجاهدون سياسة إفقادهم التوازن، ببثِّ الخوف في أوساط كل من يتعاون مع الأمريكيين في الداخل، مع إرباك مخططات إسباغ الشرعية من الخارج، وفوق كل هذا نجح المجاهدون في نقل جزء من المعركة إلى الداخل الأمريكي، عن طريق اتِّباع سياسة إعلامية تركز على إعادة تصدير إستراتيجية «الصدمة والترويع» ـ التي عانى منها الشعب العراقي في أول الحرب ـ إلى الشعب الأمريكي نفسه، وذلك بإصدار البيانات وبثّ الأفلام الحية عن العمليات الناجحة، وهو ما أوجد انقساماً في الرأي العام الأمريكي تجاه جدوى الحرب، سرعان ما تحول إلى شقاق حول مشروعية تلك الحرب ومسوّغاتها.
ومع هـذا النجاح في تشكيك الأمريكيين في قدراتهم وقوتهم، ظـهـرت أيضاً بوادر تفـكـيك التحالف الـدولـي المتـعاون مـع الأمـريـكيين، بإجـبار العـديـد من الدول على سحب قواتها أو الشروع في ذلك، فحتى الآن؛ انسحبت أكثر من 15 دولة من التحالف، وأعلنت كلٌّ من إيطاليا وبولندا وهندوراس وغيرها عن نيتها على الانسحاب، وهو ما تسبب في ردع دول أخرى كانت ترتب لإرسال قوات مساعدة.
ليس معنى ما ذكرناه عن إنجازات المقاومة أن يُظن أن أهل السنة في العراق يملكون قدرات خارقة، أو إمكانات خرافية، بل على العكس، فسقوط النظام البعثي جعل الطائفة السنية في العراق هي الأكثر تضرراً، بفعل الأحقاد الطائفية الرافضية من جهة، والعنصرية العلمانية الكردية من جهة أخرى، والاستغلال الأمريكي لهذين الطرفين الكارهين من جهة ثالثة، إضافة إلى أن حلّ مؤسسات الدولة كان في غير مصلحة السنة الذين كانوا يمثلون ـ كطائفة ـ غالبية الحكومة العراقية، وهذه الأسباب مجتمعة دفعت المقاومة إلى العمل السري، فكان هذا عاملاً إضـافياً فـي صعـوبة مهمـتهم، والمقـصود هـنا أن هـذه المقاومة عمـلت فـي ظـروف استـثنائية غيـر طبيـعية، ومـع هـذا أحرزت ـ بفضل الله ـ نجاحات قياسية في حجمها وفي وقتها وفي أثرها القريب والبعيد، فحقاً إن في ذلك لآية.

* إن المقاومة ـ مع هذا ـ ليست كياناً واحداً، ولا حتى فصائل متحدة ذات سياسات واحدة واجتهادات واحدة في كل الأحوال، فهي وإن كان قوامها أهل الدين والالتزام من العراقيين الذين أحيا الله فيهم روحاً جديدة بعد الغزو، إلا أن فيهم فئات من الجيش العراقي المنحل وكذا رجال من الاستخبارات السابقة وأبناء العشائر، وبعض الحزبيين البعثيين، مع بعض العناصر القومية والوطنية المستقلة، إضافة إلى شريحة ليست بالهينة من العرب القادمين من خارج العراق؛ فكيف تناسق أداء هذا الفريق المتنوع ليوصل إلى هذه النتائج المبهرة في أقل من ثلاث سنوات، بل كيف انبعث بعد كابوس البعث عشرات الآلاف من الأحرار المجاهدين، بعد أن كنا لا نسمع خلال سني صدام عن صوت معارض أو رمز مجاهد.
لقد تكاثَرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن حتمية الانسحاب الأمريكي من العراق، وعندما يذكر «الانسحاب» فلا بد أن يُعلم أن هذا هو مجرد تلطيف في العبارة لحقيقة الاعتراف بالهزيمة، سواء كان هذا الانسحاب آجلاً أو عاجلاً؛ لأن خطة الغزو أصلاً كانت موضوعة لبقاء دائم في العراق، وهو ما كشفت عنه صحيفة الجمهورية التركية في أوائل عام (2004م)، حيث ذكرت أن الولايات المتحدة بنت سبع قواعد عسكرية دائمة في العراق لوجود دائم.

* أبعاد الهزيمة: شواهد ومشاهد:

هناك عدد من الملامح المتفرقة، تصنع بمجموعها الصورة الكاملة لما وصل إليه الوضع في العراق، على المستوى القريب والمتوسط، ومن أبرزها:

* المستوى الذي وصل إليه حجم الخسائر البشرية الأمريكية في الحرب، وهو الأمر الذي يجيء في مقدمة الأسباب التي تذهب بصبر الأمريكيين [1] حكومة وشعباً على الاستمرار الطويل في تلك الحرب، فالإعلام الأمريكي ـ رغم عدم دقّته وحياده في نقل الأنباء المتعلقة بالحرب في العراق ـ يبث على الشعب الأمريكي كل يوم أنباء القتلى والجرحى والمخطوفين والمفقودين والهاربين وصرعى الأمراض البيئية والنفسية والعقلية على ساحة الصراع في العراق، وقد وصل حجم الخسائر البشرية المعلن عنها نحو (2500) من الجنود الأمريكيين، وأصيب نحو عشرة آلاف جندي، هذا مع تأكيد الملاحظة بأن الإعلام الرسمي الأمريكي لا يذكر من الضحايا إلا من يحملون الجنسية الأمريكية، دون ذكر الراغبين في الحصول عليها من المرتزقة والمتطوعين.

* الاقتصاد الأمريكي المنهك بعد أحداث سبتمبر، زادته حرب العراق إنهاكاً، بحيث لم يعد يحتمل إطالة أمد هذه الحرب، فالمقاومة كلّفت المحتل تكاليف باهظة بلغت حتى شهر سبتمبر 2005م (700) مليار دولار في أقل من ثلاث سنوات فقط، في حين أن حرب فيتنام بكاملها التي استمرت 18 سنة كلفت الاقتصاد الأمريكي (600) مليار دولار، وهذه التكاليف أثّرت سلباً على انتعاش الاقتصاد الأمريكي الذي سيصـبح العجـز فـيه مضاعفاً على امتداد السنوات العشر القادمة، بحسب توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس في أغسطس (2005م)، وقد بلغ عجز الميزانية (442) مليار دولار، وهو مستوى قياسي ستضطر الحكومة معه إلى إلغاء الكثير من برامج التنمية المجتمعية والاقتصادية والإسكان.

* أما الخسارة (الحضارية) فلا يمكن أن تُقّدر بثمن، حيث تستنفد أمريكا رصيدها من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، كلما طارت الأنباء بفظائع الممارسات الأمريكية في احتلالها العراق، فإضافة إلى ما سرّبته صحيفة «لانسيت الطبية» البريطانية منذ عدة شهور عن وصول عدد القتلى من المدنيين العراقيين أثناء الغزو إلى (120) ألف قتيل بخلاف العسكريين، وإضافة إلى ما سمعه العالم ورآه عن فظائع سجن «أبو غريب» والسجون العراقية التابعة للاحتلال، وكذلك ما سبق الاحتلال من موت ما لا يقل عن مليون و نصف من أطفال العراق بسبب الحصار الاقتصادي، فإن الفضائح لا تزال تتوالى عن «الانتصار» الأمريكي لحقوق الإنسان في العراق، حيث تواترت الأنباء عن أن الولايات المتحدة استعملت بعد الغزو القنابل العنقودية، والأسلحة المزودة باليورانيوم والفسفور الأبيض، والقنابل الثقيلة التي تُعدّ قنابل نووية صغيرة، والأسلحة الكيماوية، وهو ما يعني باختصار أن الولايات المتحدة استعملت في العراق (من أجل تحريره من صدام حسين) أسلحة الدمار الشامل، وهو أصبح يمثل كارثة على ذلك الشعب، بحيث أصبحت حالات الإصابة بالسرطان تتفشى بشكل مخيف، وصل إلى (40) ألف حالة إصابة بسرطان الدم أو الجلد، وأكثرها بين الأطفال.

* وقد أوقعت هذه الفظائع الإعلام الأمريكي في ربكة، جعلته في حيرة بين الإصرار على ما اشتهر عنه من الشفافية والحيادية؛ لتأكيد قيم الحرية وحقوق الإنسان، وبين أن يكذب ويتحرى الكذب ـ على مذهب رامسفيلد ـ فتكون النتيجة هزيمة إعلامية أمريكية تضاف إلى الهزيمة العسكرية والاقتصادية والحضارية!
لكن المأزق يبدو أنه أصعب مما نتصور، إلى درجة أن جورج بوش فكَّر جدياً ـ كما كشف مؤخراً ـ في محاولة قصف مقرّ قناة الجزيرة في قطر، كعمل يائس مجنون، يحكي عمق الأزمة الإعلامية الأمريكية، وجاء لجوء وزارة الدفاع إلى إعادة تشغيل جهاز «التضليل الإعلامي» في البنتاجون بتكلفة (300) مليون دولار، تأكيداً جديداً على أن الإعلام الأمريكي أصبح غير قادر على حجب الحقيقة التي تحكي أبعاد الهزيمة.

* مع اهتزاز الأوضاع بسبب الحرب في العراق، عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً؛ فقد كان لزاماً أن ينعكس ذلك على الداخل الأمريكي من الناحية الأمنية، فالإدارة الإمريكية التي استنفرت نحـو مليون جنـدي أمريكي؛ لإدارة مـا تسـميه أمـريـكا «الحـرب العالمية علـى الإرهـاب» فـي العراق وأفغـانسـتان والعـديـد من القواعد في بلدان العالم، أوجدت ضغطاً أمنياً يمكن أن يتحـول إلى ضعف في مواجهة أي طارئ حادّ، وهـو ما صرح به مؤخراً وزير الأمن الأمريكي عندما قال: إن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل ضربات أخرى على شاكلة أحداث سبتمبر.

* كلما ازداد التورط الأمريكي في العراق، شعر حلفاء أمريكا بأنها ستغرقهم معها في المستنقع العراقي، وهذا يعمِّق هوة خلاف الأحلاف، ويؤدي إلى تسارع وتيرة تفكيك التحالف الدولي مع أمريكا، لا على مستوى العراق فحسب، بل على المسـتوى العـالمي، فـي ما يسـمى بـ «الحرب على الإرهاب»، حيث صارت عمليات الانتقام تطال حلفاء أمريكا داخل أراضيهم، لا على أرض العراق فحسب، كما حدث في لندن وإسبانيا وتركيا، وهو ما كان سبباً مباشراً في انسحاب جيوش دول عديدة من التحالف، واستعداد أخرى للانسحاب.

* بل إن تخالف التحالف بدأ يسري داخل أوروبا، بل داخل البلد الأوروبي الواحد، كما حدث في بريطانيا، عندما اتهم عمدة لندن رئيس الوزراء «توني بلير» بأنه هو السبب الحقيقي في تفجيرات لندن.

* ومما يزيد في أرق الجميع ـ أمريكا وحلفائها في العراق وخارجه ـ ما تبثّه التحليلات عن تضاعف قدرات المقاومة، وزيادة إمكاناتها كمّاً وكيفاً، وهو ما ينعكس زيادة في نوعية العمليات وتأثيرها؛ فالتقارير تؤكد أن المقاومة ستزداد قوتها بفـعـل عـوامـل كثـيـرة، علـى عكس ما يـراهن عـليه بعـضهم من انحسارها وانكسارها، وقد ذكرت بعض الدراسات أن المقاومة ستصـل أعـدادها إلى الضعف، في الفترة الممتدة من شهر يناير (2006م)، إلى سبتمبر من العام نفسه، وهو الوقت الذي ستتهيأ فيه القوات الأمريكية للانسحاب، وهذا ما جعل الباحث الاستراتيجي «إنتوني كوردسمان» يحدد السقف الزمـني للوجـود العسكري الأمريكي في العراق بعام ونصف، إن لم يكن أقل!

* هذه المخاوف المستقبلية لها ما يسوغها من الوقائع السابقة واللاحقة على أرض الصراع في العراق، فالقوات الأمريكية ومن يتحالف معها، تتعرض في العراق إلى ما يقارب (2100) عملية كل شهر، كما صرح دونالد رامسفيلد وزير الدفـاع الأمريكي، أي: ما يعادل (70) عملية كل يوم، ينفّذها ما يقارب خمسين ألفاً من المقاومين، منهم نحو عشرين ألفاً من المتطوعين العرب، وهو ما جعل العراق في نظر الاستخبارات الأمريكية والدولية؛ أخطر من أفغانستان أيام طالبان، لاتِّساع حدوده، وتعدد الدول المجاورة له.

* التقارير تثبت في المقابل ضعف أو عجز الشرطة والجيش العراقيين المكلفين بمقاومة المقاومة عن أداء مهامهما، فبحسب صحيفة «النيويورك تايمز» الصادرة في 21 يوليو 2005م، فإن (50%) من قوى الأمن العراقي، لا تزال تحت التدريب، والنسبة الباقية لا تستطيع وحدها إنجاز أي مهمة دون مساندة أمريكية.

* يراقب الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون بتوجس بالغ، تأثّر قطاعات شعبية في بلدان عربية، بانتصارات المقاومة وإنجازاتها، وهو ما قد يزيد من حالات التوتر التي بدأت بالفعل تشكـل هـاجسـاً أمنـياً خطـيراً، وبخـاصة فـي الدول المحـيطة بـ «إسرائيل» التي كان تأمينها هدفاً رئيساً من أسباب غزو العراق، وهذا عامل محيّر للأمريكيين، لا يدرون ما الحل فيه: أيظـلون في المنـطقة ليـدافعوا بالنـيابة عن «أمـن إسـرائـيل»؟ أم يغادرونها ويتركون اليهود يلاقون مصيرهم وحدهم؟

* كان طبيعياً أن يقود كل ما سبق إلى زيادة خصوم الحكومة الأمريكية في الداخل، وقد استغل الديمقراطيون بوجه خاص ورطات بوش في العراق، كي يضغطوا باتجاه المطالبة بانسحاب سريع، وهو ما يزيد من حالة الحرج التي يتعرض لها بوش وإدارتـه، حـتى أصبـح يخـرج إلى الإعلام بكثرة مدافعاً أو محذراً أو مبرراً أو رافضاً أو مصدراً للقرارات والتصريحات التي يحاول أن يدفع بها الحملة عليه وعلى إدارته، وهناك الكثير ممن كانوا يؤيدون قرار الحرب سحبوا موافقتهم، منهم المرشح الديمقراطي للرئاسة في الانتخابات السابقة (جون كيري)، والرئيس السابق (بيل كلينتون)، وقد اتهم جورج بوش زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب في شهادة أمام الكونجرس بأنه يعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، فقال: «مستقبل جيشنا في خطر... إن جنودنا وعائلاتهم يحمّلون فوق طاقاتهم، وأصبح الناس يتحدثون أن الجيش الأمريكي هزم»!

* وقد تضافرت كل هذه العوامل في إيصال إنذار مبكر إلى «جورج بوش»، بأن هزيمة أمريكا قد تكون كارثية على يديه، وهو الذي كان يتفاخر مع أنصاره من الإنجيليين والمحافظين الجدد بإطلاق مشروعات على امتداد العالم مكانياً، وعلى امتداد القرن زمانياً، انطلاقاً من الشرق الأوسط «الكبير»!
هبطت شعبية «بوش» بشكل كبير في الشهور الأخيرة، فنزلت إلى معدل (42%) بحسب الاستطلاع الذي أجرته صحيفة (نيويورك تايمز) وشبكة ((C.B.S نيوز، ولم يكن هناك تفسير لهذا الهبوط الحاد، إلا الارتفاع الحاد في معدل خسائر أمريكا بشرياً واقتصادياً وإعلامياً.
كل هذه الأمور وغيرها من مظاهر ودلائل الهزيمة، جعلت المشروع الأمريكي برمّته في العراق في مهب الريح، وقد بدا هذا باعتراف «جورج بوش» الصريح مؤخراً في 17/12/2005م بأن: «قرار الحرب قد اتخذ بناء على معلومات استخباراتية خاطئة»! وهو اعتراف يعني بلفظ آخر، أن هناك خطأ ما تسبب في خسارة الحرب!
ويحاول الأمريكيون التغطية على بوادر الهزيمة، بالإعلان عن إجراء (حوارات) مع بعض رموز المقاومة. وفي محاولة لحفظ ماء الوجه؛ يركزون على ما يعدونه «نجاح» التجربة الديمقراطية العراق عبر الانتخابات، وهي تلك التجربة التي فاضت رائحتها من بلاغات الشكوى المتبادلة من التزوير والتزييف التي يحاول بها الفرقاء في العراق إثبات أن الشعب يقف معهم. وفي شكل آخر من أشكال التغطية على النتائج المخيبة لآمال الأمريكيين، جُرّت الجامعة العربية للتحرك ضمن ما سُمي بـ «مؤتمر الوفاق الوطني» الذي يحاول الأمريكيون من خلاله إسباغ شرعية عربية على العملاء العائدين إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، مع أن هؤلاء أنفسهم يستشعرون الخطر كلما علت الأصوات بضرورة الانسحاب، إلى درجة المطالبة ببقاء الاحتلال والتحذير من تعريض العراق للخطر إذا وقع هذا الانسحاب في وقت قريب.
والعجيب أن هذا نفسه ما يحس به الأمريكيون، حيث يصرحون بأن هذا الانسحاب لو تم مبكراً لكان هزيمة مشتركة للأمريكيين، ولحلفائهم العراقيين في وقت واحد.
وقد كرّر جورج بوش ذلك في الفترة الأخيرة، وقال ردّاً على من يطالبونه بالانسحاب السريع: «إن الانسحاب الفوري خطأ جسيم، وسيؤدي إلى انتصار الإرهاب، وهزيمة أمريكا»! والمعنى نفسه صرَّح به «جيفري وايت» المحلل السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، حيث قال: «لا نستطيع أن نسيطر سوى على الأرض التي نقف عليها، وإذا غادرنا العراق، فسوف تسقط في أيدي المسلحين»، وكذلك قال «رامسفيلد» في زيارته الأخيرة للعراق في 12/12/2005م: «الانسحاب السريع من العراق، هو أقصر الطرق إلى الهزيمة،»! ولكن الأعجب في استعمال لفظ «الهزيمة» على ألسنة «جورج بوش» و«رامسفيلد» وغيرهما من المسؤولين الأمريكيين أن التصريح بها وباحتمالات وقوعها؛ يجيء بعد أن كان «جورج بوش» قد أعلن من فوق بارجة أمريكية في 2/5/2003 ـ أي بعد انتهاء العمليات العسكرية بشهرين، انتصار أمريكا في حربها ضد العراق!
ولكن بعد مرور ما يزيد على عامين ـ وبالتحديد في أول شهر ديسمبر من عام 2005 ـ تصدر حكومة بوش ما أسمته: «إستراتيجية صنع النصر في العراق»!!، وقد جاء فيها ـ كما نشر على موقع الخارجية الأمريكية ـ: «إن الهزيمة في العراق، ستشجع الإرهابيين على توسعة رقعة نشاطهم، والنجاح في العراق سيوجه ضربة حاسمة إلى الإرهابيين تشلّ قواهم، إن مصير الشرق الأوسط الكبير، الذي سيكون له تأثير عميق ودائم على الأمن الأمريكي؛ هو الآن في كفة الميزان»!

* الانسحاب أو بالأصح: (الهزيمة) بدأت فعالياتها من الآن، فقد صرح موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني العراقي، بأن ما يقرب من (25%)، أي نحو ثلاثين ألفاً من القوات الأمريكية بالعراق، ستنسحب في أوائل عام 2006م.
هناك حالة من الإحباط واليأس، لم يستطع الأمريكيون كتمها، حتى «دونالد رامسفيلد» الذي تعوَّد الناس على ظهوره متبختراً مازحاً أمام الشاشات في أعقاب حرب أفغانستان، وأثناء حرب العراق، لا يُرى الآن إلا متجهماً عابساً، وقد اعترف في تصريح له في شهر يونيو (2005م) بأن المقاومة في العراق عندها من الإمكانيات أن تستمر لاثني عشر عاماً في محاربة أمريكا، وقد كرر قائده الميداني ورئيس الأركان السابق في العراق «مايرز» الكلامَ نفسه، إلا أن أحد الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين ـ وهو «باري ماكفراي» ـ قد فاجأ الجميع بكلام أخـطر مـن تصــريحات «رامسفليد» وقائده «مايرز»، حيث قال ـ بحسـب موقع الجزيرة على الإنترنت في 19/7/2005م ـ: «إن الأعمال المسلحة ستبلغ ذروتها في العراق خلال الشهور التسعة الأولى من عام (2006م)، وبعدها سيكون الانسحاب الأمريكي أمراً لا مفرّ منه»!
هناك من السيناريوهات ما هو أكثر خطورة عند الأمريكيين من كل ما سبق، وهو أن لا يستطيع الأمريكيون الانسحاب من العراق في الوقت الذي يريدون، وذلك عندما يثبت عجزهم عن تثبـيت الأقـدام الخشبيـة لـ «جيــش الدفاع» العراقي المكون مـن الميـلشـيات الكــردية العلمـانية والشيعية الرافضية، وعنـدها قـد تضطـر أمريـكا اضطـراراً للبـقاء القســري، متلقية الضربات الموجـعة التـي يـختار المجـاهـدون زمـانها ومكـانها، وعنـدهـا لـن يسـتطـيع «جـيـش الأشـباح» ـ كمـا وصفـه الكـاتب «باتـريك كـوك» ـ أن يـدافع عـن الأمريكيين، كما لا يستطيع الأمريكيون أن يـدافـعوا عنـه؛ لأن قسـماً كبيـراً مـن ضبـاط هذا الجيش ـ كما يقول الكاتب ـ يتسلمون رواتب جنـود وهميـيين، جالسـين في البيوت، أو غير موجودين أصلاً، فإحدى الوحدات التي يفترض أن يكون فيها عشرون ألف رجل، لا يعدو العدد الحقيقي فيها (300) رجل فقط، والولايات المتحدة التي تتحدث عما يقرب من (150) ألـف عراقـي فـي قـوات الأمـن، لا يزيـد عـددهم في الحقيقة عن (40) ألفاً فقط!

* ماذا تعني هزيمة أمريكا؟

سيكون لهذه الهزيمة عندما تحدث ـ وهي لا بد أن تحدث بإذن الله ـ ستعني أموراً كثيرة وكبيرة:

* ستعني أن المشاريع ذات الطبيعة الكونية العالمية، مثل: «مشروع الإمبراطورية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين» للإنجيليين الأمريكيين النصارى، ومشروع «القرن الأمريكي الجديد» للمحافظين اليـهود الجـدد في أمـريكا، قـد توقـفا أو تعرقلا إلى أجل غير مسمّى، وربما أُلغيا بالمرة، بعد أن أنسى المجاهدون في العراق عصابة «الأبواش» وساوس الشيطان.

* ستعني أن أحلام اليهود ـ من المحافظين الجدد أنفسهم ـ في تسلّم دفة الحكم في أمريكا، في مهب الأعاصير؛ نظراً للإحباط الذريع في العراق أولى محطات التآمر العالمي ليهود أمريكا في القرن الجديد.

* ستعني أيضاً، أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» سوف يرفع إلى رفٍّ صغير في البنتاجون أو البيت الأسود؛ لأن منصة إطلاق هذا المشروع في العراق قد احترقت.

* ستعني أن دولة اليهود التي لا يغيب ظلّها عن كل تلك المؤامرات الدولية ستصبح عما قريب في مواجهة حقيقية مع خطر حقيقي، يختلف مع المخاطر الوهمية الماضية، مثل: الناصرية، والقومية، والبعث العراقي، والبعث السوري، والثورة الإيرانية.

* ستعني أن حاجز الرعب الغربي قد انهدم، وسيف الإرهاب الأمريكي قد انخرم، وبكسر هذين الحاجزين سيكون ما دونهما أهون منهما بإذن الله.

* ستعني أن خيرية الأمة الإسلامية ستتجلى من الآن فصاعداً، في شعوبها، لا في دولها وأنظمتها، فالشعب في العراق هو الذي يدافع عن العراق وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في فلسطين هو الذي يدافع عن فلسطين وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في أفغانستان هو الذي يدافع عن أفغانستان وعن كرامة الأمة كلها، وكذا يقال، وسيقال عن بقية الأمة بشعوبها في أكثر أوطانها.

* ستعني أن عصر القطبية الواحدة آيل للأفول، وسوف تبرز أقطاب أخرى قريباً ـ بإذن الله ـ سيكون منها: القطب الإسلامي العالمي، مُسقِط القطبين قبله، وما ذلك على الله بعزيز؛ فسنن الله الكونية ماضية إلى غاياتها الحكيمة، وفق محكمات السنن الشرعية الدينية؛ لأن امتثال أحكام الله الشرعية، هو الطريق الوحيد لتحقيق أحكام الله القدرية، حتى لو ظنها الناس معجزات أو خوارق لا يمكن أن تتحقق {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
تحدثت عن الآيات... وتبقى بقية عن التحديات:
فإلى عدد قادم بإذن الله.

 


تحديات ما بعد أمريكا
 

* يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين :
أولهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق ؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق.

والأمر الثاني: أن المحتل الأمريكي أعلن مراراً على ألسنة ساسته بأن العراق أصبح الساحة الرئيسية لما تسميه أمريكا بالحرب (العالمية) على الإرهاب! وهو ما يعني أن تلك الحرب يمكن أن تنتقل إلى ساحات أخرى في بلدان أخرى، يقع عليها الاستهداف الخبيث بخطة إبليس المسماة بـ (الفوضى الخلاقة) التي يريد الأمريكيون تكرارها في كل بلد يريدون أن ينقلوا إليه مركز الحرب العالمية على الإسلام، المتسترة وراء الحرب على الإرهاب.
المجاهدون في العراق، أو ما يصطلح على تسميتهم في الإعلام العربي بـ (الجماعات المسلحة)، وما يصطلح في الإعلام الأمريكي والغربي على تسميتهم بالإرهابيين أو المتمردين، هؤلاء قاموا بقدر كبير من الواجب التاريخي في التصدي للهجمة الأمريكية، من الناحية العسكرية الميدانية على الوجه الذي فصلت الكلام عنه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو الأمر الذي رأيت فيه ـ ولا أزال ـ معجزة تاريخية، وآية ربانية تمر بنا وأكثرنا عنها معرضون أو غافلون.
إلا أن تلك الإنجازات الضخمة والنتائج الجبارة التي ألجأت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة إلى التسليم «العملي» بالهزيمة باتخاذ قرار الانسحاب بعد أقل من ثلاث سنوات من الغزو تتهددها تحديات، يمكن أن تفرغ الإنجاز الضخم من محتواه، وتحوِّل النتائج المبهرة من صورتها الإيجابية إلى صور أخرى سلبية، وهذا المحظور الخطير؛ يمكن أن يقع ـ ونسأل الله ألا يقع ـ إذا حدثت محاذير أساسية، يمكن اختصارها فيما يلي:
1 ـ إذا لجأ الأمريكيون إلى خيار (الأرض المحروقة ) عند انسحابهم المخزي المهزوم، بإشعال حرب أهلية، طائفية وعنصرية، يمكن أن تؤدي إلى إحراق ما تبقى من العراق، إذا استجاب لها أقوام دون تقدير للظرف التاريخي الخطر، والمنعطف الحضاري الحساس.
2 ـ إذا أصيب بعض المقاومين بداء نشوة النصر، فراحوا يسارعون إلى جمع الغنائم واقتسامها في شكل مواقف متعجلة، وقرارات منفردة من شأنها أن تمكن الأعداء من استعادة التوازن، أو تمكِّن بعض الفرقاء من اختطاف النصر، واقتطاف الثمار.
3 ـ إذا استمرت الأنظمة في الدول العربية والإسلامية في خـذلان العـراقيـين والسـير في ركاب الأمريكيين، لينوبوا عنهم ـ بعد الانسحاب ـ في أداء مهمة أمريكا المستحيلة في العراق، وهي تقوية العملاء وحمايتهم وإضفاء الشرعية على حكومتهم.
4 ـ إذا استمر أكثر الإسلاميين في رفع أيديهم عن التحدي الذي تواجهه الأمة في العراق عقائدياً وحضارياً ـ حيث يتربص به العلمانيون ليسلخوه عن الإسلام، والفرس ليعزلوه عن العروبة، وأمريكا والغرب واليهود ليردوه إلى عصور ما قبل الحضارة.
والضرورة تقضي ـ ونحن على مشارف الاستبشار بالنصر الجديد ـ ألا يسمح الغيورون على الأمة وحرماتها في العراق وخارجه؛ أن يتحول هذا الانتصار إلى انكسار؛ فكم في التاريخ من نجاحات لم يحفظها أهلها فتحولت إلى إخفاقات؛ فما حدث في أُحُد، كُبِّرت صور عديدة منه في الشام وإفريقيا والأندلس، وكُررت في عصرنا في حرب رمضان وحرب أفغانستان. ولكن أوضاع الأمة هذه المرة لا تحتمل مثل هذه التحولات الحادة، فالخصم ضخم، والمشوار طويل، والجراح كثيرة.

* لكن الفرصة سانحة:

نعم!... فهناك متسع من الحظ لأن تغالب الأمة هذه التحديات، وتمارس خيريتها مرة أخرى فتستنقذ العالم من غول المغول الجدد، والصليبيين المعاصرين في حملاتهم المتجهة ـ كما هي العادة في التاريخ ـ نحو شرقنا العربي الإسلامي بغرض إنشاء إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات الشر، وقد ساق الله بأقداره الحكيمة الأمور إلى تناغم عجيب بين أداء الفداء الأسطوري للمقاومين في العراق، مع الغباء الاستثنائي للتخطيط الأمريكي الذي يتخبط في ورطاته، ويتورط في تخطيطاته من مرحلة إلى مرحلة وفق إستراتيجية هلامية، اتفقت عليها النخبة الحاكمة في أمريكا.

هذه الإستراتيجية، كانت تقوم ـ حتى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ـ على أمور ثلاثة أساسية وهي:

• البقاء في العراق حتى تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية وتأكيد هيبتها السياسية.
• الانتهاء من هزيمة من تسميهم أمريكا بـ (المتمردين) كجزء رئيس من الحرب العالمية على (الإرهاب)
• تثبيت حكومة موالية للأمريكان، يمكن من خلالها مواصلة تحقيق الأهداف الأمريكية، والادعاء بتحقيق الديمقراطية والحرية للشعب العراقي.

وهذه الإستراتيجية التي تبدو منطقية لدى الأمريكيين، هي في الحقيقة غير عملية؛ لأنها تستند إلى عدة افتراضات وهمية:
الوهم الأول منها: هو افتراض أن الوجود الأمريكي سيظل ممكناً رغم فداحة الخسائر حتى تحقق أمريكا مصالحها وتؤكد هيبتها وتثبت عملائها.
والوهم الثاني: هو توقع أن يوافق أحرار العراق على قرار أمريكا بالاستقرار في بلادهم دون أن يضاعف هبّتـهم لـرد الصـاع صاعين في وجه الغزاة ومن يشابههم.
والوهـم الثالـث: هو افتـراض سهـولة القضـاء علـى المقـاومـة عسكـرياً، أو تـدجينها والتغـرير بهـا سياسيـاً.
والـوهـم الرابع: هو افتراض وجود القابلية للممارسة الديمقـراطيـة في البنـية الطـائفية والعـنصرية العراقـية، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدم النموذج المحتذى ـ كما يحلم الأمريكان ـ في نشر ما يسمى بقيم الحرية والتعددية وقبول الآخر؛ فالطائفية والعنصرية في العراق جبرية قهرية تاريخية، لا يحيّدها أو يحد من أثرها إلا التوازن بين الأقوياء، ولا يزيل أوضارها إلا أخوّة الدين.

وعليه، فإن إستراتيجية أمريكا للانتصار في العراق هي إستراتيجية مفلسة سلفاً، لاستنادها إلى تلك الأوهام والافتراضات الخاطئة، وقد بدت أمام العالم مؤشرات إقبال الولايات المتحدة على مواجهة أسوأ النتائج المترتبة على انهيار إستراتيجيتها في العراق، وهذا وإن كان يحمل في طياته من المبشرات والتطمينات ما يحمل، وبخاصة فيما يتعلق بتسريع وتيرة الانسحاب المهزوم، إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى الكثيـر من المحـاذير؛ لأن أمريـكا التي ستواجه أسوأ النتائج، لا شك أنها وعملاءها سيُقْدِمون على أسوأ الحيل وأنذل التوجهات والإجراءات، للتغطية على النتائج الكارثية لهزيمتهم التاريخية في العراق.
والمتوقع أن يترجم هذا إلى عدد من التحديات الجديدة التي ستتوجب مواجهتها على الصعيد العراقي الخاص، والعربي الإسلامي العام.

ويمكننا أن نصنف هذه التحديات إلى مستويات عديدة، باعتبار أن تحديات ما بعد الانسحاب، لن تأتي من أمريكا وحدها، وإنما من أطراف عديدة، يمكن تفصيلها على الوجه التالي:

 أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:

* قد تلجأ الولايات المتحدة إلى سيناريو اليابان بدلاً من سيناريو فيتنام؛ ففي مواجهة الهزيمة في فيتنام اكتفت أمريكا بالانسحاب الذليل دون ضجة أو انتقام، بينما أفرطت في الانتقام في حالة اليابان حتى استعملت القنابل النووية، كي تستعيد هيبتها وتفرض احترامها على من تجرؤوا بالهجوم عليها في سيناريو (هاربر). وفي حالة الهزيمة في العراق؛ لن تلجأ الولايات المتحدة إلى مثل هذه الخيارات المجنونة ـ في اعتقادي ـ إلا في حالة واحدة، وهي الحالة التي يمكن أن يُُعلن فيها عن إقامة دولة إسلامية سنية سلفية جهادية بعد الانسحاب، تصلح لأن تكون قاعدة امتداد إسلامي عالمي جديد، فعندها سيكون هذا بمثابة إعلان حرب على أمريكا والغرب، ولن تكون المعالجة هنا تقليدية عقلانية، بل ستكون شمشونية جنونية.

* اعتماد مبدأ (الفوضى الخلاَّقة) قد يكون خيار الأمريكيين في آخر الحرب كما كان خيارهم في أولها؛ فالولايات المتحدة التي تعمدت فك كل الأربطة في جسم الدولة العراقية بُعَيْد الغزو، لتغرقها في فوضى يمكن النفاذ فيها إلى كل الأهداف الأمريكية؛سوف تلجأ إلى هذا الخيار إذا رأت فيه تحقيقاً لشيء من مصالحها، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الديمقراطية والإصلاح والتعمير.
وخيار (الفوضى الخلاَّقة) يمكن تنفيذه بتسعير أتون الحرب الأهلية، لا بين الشيعة والسُّنة فحسب بل بين العرب والأكراد، وبين العلمانيين والإسلاميين، بل بين الإسلاميين الذي يُدعون (معتدلين) وإخوانهم الموصوفين بـ (المتشددين)، والحرب الأهلية يمكن أن تندلع إذا تركت أمريكا أرض العراق وهي واقعة تحت سيطرة الشيعة والأكراد وحدهم دون السنة العرب، أو تحت سيطرة العلمانيين دون بقية طوائف المتدينين، أو إذا تركت العراق بدون حكومة أصلاً.

* سيناريو إشعال الحرب الأهلية، قد يدفع باتجاه المخطط القديم بغرض التقسيم، حيث سيطالب الشيعة بجنوب العراق ـ وفقاً لترتيبات ما يسمى بـ (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) وسينفصل الأكراد (رسمياً) بالشمال، بعد أن استقلوا به عملياً منذ فرض الحظر الجوي على شمال العراق بعد حرب الكويت؛ وهنا قد يضطر أهل السنة إلى وضع أيديهم على ما يبقى من الكعكة العراقية في الوسط، أو ما يبقى من ذلك الوسط، بعد أن يكون الشيعة قد فصلوه وفصَّلوا أجزاء منه لصالح الجنوب الشيعي.

* الأمريكيون سيلجؤون حتماً إلى إعمال مبدأ (فرق تسد) بـين الفصائل الجهادية السنية العراقية وبين العناصر المشتغلة بالسياسة من سنة العراق. أما تفريقها بين فصائل المجاهدين أنفسـهم، فـقد بدأتـه أمريـكا بفتح قنوات اتصال مع المقربين من بعض الفصائل الجهادية، مع الترويج إعلامياً للتفريق بين ما يسمى (المقاومة الشريفة) و (المقاومة غير الشريفة)! والتفـريق بين (الراديكاليين) و (الواقعيين) من السياسيين، وبينـ (المعتـدلـين) و (المتشـددين) من الإسلاميين، وغير ذلك مـن التقـسيمات الخبيـثة التـي بـدأت أمريكا في استغلالها أسوأ استغلال.

* ستغير الولايات المتحدة في ولاءاتها بحسب مصالحها؛ فهي وإن كانت قد استهلكت الورقة الدينية الشيعية في معظم ما مضى من زمن الاحتلال، إلا أنها قد تُحل الشيعة العلمانيين محل الشيعة المتدينين، ليكون رهانها على تغيير البنية الثقافية للشعب العراقي أوقع وأقرب، والأخطر من ذلك، أن تضم إلى ذلك شرائح من السنة المتميعين أو العلمانيين فتجعل بعضهم رؤوساً في نظام الحكم تنطح بهم المقاومة التي قد تفاجأ ـ كما كان عهد الاستـعمار دائماً ـ بخلفاء الاستعمار وحلفائه، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة.

* ستضطر الولايات المتحدة إلى إنهاء حملتها العسكرية في يوم من الأيام القريبة المنظورة ـ بإذن الله ـ تحت وقع الضربات الجهادية، ولكن حرب الدمار والاستعمار، كانت تعقبها دائماً حرب الأفكار، وقد صار مصطلح «حرب الأفكار» مستقراً في إستراتيجية المواجهة الأمريكية للمد الإسلامي، وهو وإن كان لم يفعَّل إلى الآن بالصورة المخطط لها، إلا أن المتوقع أن يشهد العراق، وتشهد الكثير من دول العالم الإسلامي، هجمة ثقافية وإعلامية تحاول يائسة تشويه صورة المنتصر النبيل وتقديمه على أنه عدو للحضارة، وطارد للتقدم، وعاشق للتخلف. ولن يألو المنافقون جهداً في تقديم وقود تلك الحرب، من خلال مراكز أبحاثهم ووسائل إعلامهم ومنابر أفكارهم المقروءة والمسموعة والمشاهدة، لتكون الحرب هذه المرة ليست موجهة فقط إلى المفردات الشاذة التي ذللوها على ألسنة الجهلة من العامة، كاالإرهاب والتطرف والأصولية، بل ستوجه إلى الإسلام نفسه تحت مسمى مواجهة السلفية والوهابية والعقيدة السنية.

* إن هذه التحديات الجسام، تحتاج إلى مئات العقول المفكرة، والقلوب النيرة والكفاءات القديرة كي تنتدب لمواجهة ما قد تخبئه الأيام لا على مستوى العراقيين فحسب، بل على مستوى الأمة كلها بالأقرب منها فالأقرب؛ فمن غير المقبول أن نكون شركاء في إجهاض النصر وتبخر الحلم وفقدان الفرصة، بترك هذه التحديات تمضي لغايتها. وبما أن العثور على الحلول لا يُنال بمجرد الآمال، فإن ذوي الرأي وأصحاب الفقه وأرباب التخصصات الدينية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية في الأمة مدعوون اليوم بإلحاح إلى تقديم المستطاع من الرأي والمشورة، والتسديد والتقريب والنصيحة، إلى أصحاب القرار الإسلامي في العراق باعتبارهم نواباً عن الأمة في مواجهة الملمات التي تحيق بجزء من جسدها على أرض الرافدين، علماً بأن عاماً أو أكثر قد يمضي حتى ينتهي الاحتلال، وتبدأ مشكلات ما بعد الاحتلال.

هناك معضلات معقدة، لا يصلح لها إلا أهلها من أصحاب التخصص في الفتاوى الفقهية أو التنظيرات العسكرية والإستراتيجية، ولكن هناك عمومات، تحكمها المبادئ المستقرة في الفهم الإسلامي قد تضيع ـ مع بداهتها ـ في زحمة التفصيلات والتفريعات وهي تحتاج فقط إلى حسن التقدير، مع حسن التقديم.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن منها ـ فيما يتعلق بالتحديات على المستوى الأمريكي ـ ما يلي:

* يمكن تضييق خيارات أمريكا في الانتقام، بشد اللُّحمة، وتقريب الهوة بين فصائل المجاهدين من جهة، وبين عموم الشعب من جهة أخرى حتى لا تتمكن أمريكا وأولياؤها من عزل المقاومة وتصويرها بصورة الخروج عن الصف العراقي. والبداية في توحيد الصف العراقي ـ ولو في حدها الأدنى ـ لن تكون إلا من المجاهدين؛ فهم الأقدر على مجاهدة شياطين الفرقة وغربان البين، والشعب سيكون تبعاً لهم إذا اتحدت كلمتهم، وبقية الأمة ستكون مع خيارهم، وعندها سيظهر الانتقام الأمريكي ـ إذا حدث ـ على أنه انتقام من الشعب، يمكن أن يضاف إلى سجلات الإجرام بانتظار إجراء مماثل من المعاملة بالمثل.

* هناك متسع من الوقت لتفويت فرصة (الفوضى الخلاَّقة) التي قد تترجم إلى حرب أهلية؛ وذلك باجتماع الرؤوس الكبيرة من سنة العراق عرباً وأكراداً على إستراتيجية موحدة لما بعد الانسحاب ولو في خطوطها العريضة، استباقاً للتحرش الأمريكي الذي يراهن على إشعال المواقف وإذكاء الفتنة، وكذلك فإن الاتفاق على آلية للتحاور والتفاهم من الآن، أمر لا بد منه ديناً وعقلاً؛ لأن الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، قد يغرق السفينة بركابها وربانها.

* خطر التقسيم لا يمكن دفعه إلا بمدافعة الواقفين وراءه؛ فلو علم كل ساعٍٍ في التقسيم أن ثمن سعيه سيكون وبالاً عليه لرجع وارتدع؛ فكم من مَرَدَة ردتهم المخاوف والحسابات الدقيقة للمستقبل، عن أحلام التفرد والتمرد. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ثم قال بعدها: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وهم المنافقون الممالئون للكافرين. ومن الخير أن يتواكب النصح مع الردع، بإقناع الفرقاء بأن العراق الموحد قوة للجميع؛ وتمزيقه إضعاف للجميع، فدعاة التقسيم لن يقفوا عن حد ثلاث دويلات للأكراد والسنة والشيعة، بل قد يسعون إلى مزيد من التفتيت حتى يصل الأمر ـ لا قدر الله ـ إلى أن نسمع عن الإمارات العراقية «المتحدة»، مع الولايات الأمريكية المتحدة!!

*** حرب الأفكار الأمريكية، لا بد من الإعداد لمواجهتها من الآن بأفكار إسلامية، وهذا الواجب ألصق بخارج العراق منه بداخله؛ فالمستهدَفون بهذه الحرب ليسوا العراقيين المشغولين في المعركة فقط، لكن المستهدَف هو الأمة كلها، ولهذا يتكاثر من الآن نشاط المراكز البحثية المشبوهة، والقنوات الفضائية الفوضوية لخوض غمار تلك الحرب التي يتوقع أن تستعر أكثر بعد الانسحاب، لإلهاء الناس عن فضيحة الهزيمة التاريخية لأمريكا. من واجب الباحثين والإعلاميين الإسلاميين، أن يرصدوا فعاليات تلك الحرب ـ حرب الأفكار ـ ليتمكنوا من صـدها قـبل أن تـؤتي ثمارها المرة؛ فهذا واجب إسلامي عام، لا يحتاج إلى ساحات تدريب أو ميادين رماية.

ثانياً: إيران واللعب بالنيران:

هيام الفرس بعبادة النار قديماً، قد ترك آثاره فيما يبدو على تكوين مَنْ لم يتطهر بالكامل من أدران تلك النيران الفارسية الجاهلية الماضية؛ فالثورة والثأر والتثوير، كلها مفردات جاهزة للإنتاج والتصدير، في ظل معتقدات التشيع الفارسي التي حولت هذه السلوكيات الدخيلة إلى قربى إلى الله، وزلفى إلى أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فانضمام الطبيعة الفارسية إلى العقيدة الشيعية، جعل مذهبهم ناراً على نار بدلاً من أن يكون نوراً على نور.
وقد أخرجت دوافع الثارات التاريخية القديمة أصحاب القرار في إيران عن كثير من فرضيات العقل والمنطق، فضلاً عن مقتضيات الدين والمصلحة، فراحوا يُحنون ظهورهم أمام العدو الكافر الظاهر ليمر من فوقها إلى اقتحام حرمات المسلمين ومقدراتهم في كل من أفغانستان والعراق، وسوف يكتب التاريخ بحروف سوداء تلك المواقف النكراء التي كرر بها هؤلاء سلوك أشياعهم وأجدادهم من أمثال نصير «الدين» الطوسي، ومؤيد «الدين» العلقمي الذين جعلوا من الدين ستاراً يخفي التآمر مع أعداء الدين.
وإذا كنـا لا نـزال نـذكر مـواقفـهم فـي الموالاة الصـريـحـة لـ «الشيطان الأكبر» قبل وأثناء وبعد غزو أفغانستان والعراق، فإننا ـ وبكل مرارة ـ نتوقع الأسوأ بعد أن تمضي سحابة الاحتلال السوداء الهوجاء.

إذا كانت القوات الأمريكية وشريكتها البريطانية، وغيرهما من الشركاء والحلفاء يفكرون من اليوم في كيفية الهروب الآمن من العراق؛ فالقوات الإيرانية الأجنبية ـ تحت رايات وطنية ـ لا بد أنها تستعد من اليوم للحلول مكانها، والحؤول دون رجوعها، لتستفرد هي بالقصعة العراقية؛ وقد تمهد الأمر من الآن لإيران بعدما تمكن شيعة العراق الموالين لها من السيطرة على معظم كيان الجيش والشرطة. ولا نظن أن هذا الإنجاز الذي توافر للشيعة في كل من إيران والعراق، سيسهل التفريط فيه عند عموم الطائفة المتطلعة إلى استكمال الهلال (الخضيب) من أفغانستان إلى لبنان، مروراً بإمارات الخليج والعراق وسورية، ولهذا فإن ذلك يمثل تحدياً عظيماً من تحديات ما بعد الهزيمة الأميركية، ليس لأهل السنة في العراق فحسب، بل لأهل السنة في العالم أجمع، هؤلاء الذين لم يجمعهم ـ إلى الآن ـ إلا التفرق والتنازع، دون ما مرجعية علمية موحدة، أو قيادة سياسية واحدة.

قد تسارع إيران في مساندة خيار التقسيم كخطوة أولى، لتضمن مشايعة الجنوب الشيعي لها، وانضواءه تحت لوائها، وجيش الغدر المسمى بـ (فيلق بدر) جاهز من الآن ليكون الجهاز العسكري لدولة المجلس الأعلى «للثورة الإسلامية» في العراق، بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة، جاهز لإدارة الجهاز السياسي فيها.

وسيناريو التغلغل الشيعي على الصعيد السياسي أو العسكري، قد أسس له منذ البداية خميني العراق «الإيراني» السيستاني، فهو الذي دفع بالشيعة إلى الانخراط بقوة في العمل السياسي والعسكري في ظل الاحتلال الذي لن يقتصر في المستقبل ـ على ما يبدو ـ على جزر الإمارات العربية، بل يريد الامتداد للسيطرة على بعض العواصم العربية، بالتواطؤ مع الأمريكيين حيناً، وبالانفراد عنهم أحياناً.

اخـتراق إيـران للعراق، والذي سيكون ـ إن وقع ـ اختراقاً للخـليج كـله، وسوف ينعش ثورات التشيع في أكثر دول المنـطقة؛ حيـث سنسمع عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في أكـثر مـن عـاصـمة عـربـية، بل وغير عربية، وهـو ما سيؤسس ـ إذا سارت الأمور على حسب مخططات بروتوكولات حكماء قم إلى مدٍّ رافضي خطير، يطال العقيدة والدين، بعدما يهدد الأوطان والمقدرات؛ وهـنا قـد تقع الشعوب الإسلامية السنية بين فكي كماشة الفرس والروم!
وعلى غرار الجهد المطلوب لمواجهة التحديات الأمريكية، تتأكد الحاجة لجهود مضاعفة لمواجهة التحديات الإيرانية، ولعل من المعالم البارزة في هذا الصدد أن يجري استحضار الحقائق التالية:

1 ـ ليس كل الشيعة من أهل القناعات الدينية؛ فهناك شرائح منهم علمانية، ولكن الديني والعلماني في إيران، مشبع بروح فارسية، تستبطن العداء للعرب، وبخاصة السنة منهم، ولذلك فلن يكون لشيعة العراق العرب مهما توهموا كبير وزن في إدارة شؤون العراق إذا ما تمكنت إيران هناك، ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى شىء من التأليف وتقريب الآراء بين العرب السنة والعرب الشيعة في العراق، لا على خلفية عنصرية ضد الفرس؛ فذلك ليس من الإسلام، بل على خلفية المصلحة العامة التي يحتاج إليها الطرفان في مواجهة التوغل الإيراني القادم.
والذي نعرفه أن شيعة العراق من غير الفرس، أقل خبثاً وأدنى قرباً من السنة هناك، بفعل عوامل التعايش والتجاور والمصاهرة، وبخاصة العامة منهم؛ حيث يعتقد أنه يسهل كسبهم أو تحييدهم إذا افتضح استغلال الإيرانيين لهم.
2 ـ لأن شيعة العراق منهم المتدينون المتشددون، ومنهم العلـمانيون والليـبراليـون؛ فإن رهان أمريكا منذ البداية كان علـى الشيـعة العلمـانيـين، وبخـاصـة الليبـراليين الذين رأت أنها يمكنها من خلال تمكينهم أن تدعي النجاح في إحلال قيم الحرية والديمقراطية في العراق، كنموذج أول في الشرق الأوسط.
ومن غير المستبعد أن تتدخل أمريكا بشكل ما، لإفساد الطبخة التي أنضجها الدينيون المتشددون في الانتخابات الأخـيرة، لتعيد العلمانيين الليبراليين من أمثال العلاوي والجلبي إلى سُدَّة الحكم، وهذا ـ إن وقع ـ سيكون مقدمة صِدام مصالح آخر بين أمريكا وإيران على أرض العراق، وبوسع السنة أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهم وحدهم الأقدر على اغتنام هذه الفرص.
3 ـ من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأمريكي، وهنا... فعلى سنة العراق ـ وبخاصة العلماء والدعاة ـ أن يحسنوا استثمار هذه الفرصة إذا سنحت، من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء وإيقاف الشحناء، والانتقال ـ أو بالأحرى ـ الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولا شك أن هذا الخيار قد يكون فيه الخير للطرفين؛ فالسنة ليسوا في حاجة إلى تكثير الأعداء، والشيعة ليسوا في حاجة إلى مزيد من الاستعداء لقوم بدا أنهم أولو بأس شديد إذا جاسوا خلال الديار.

ثالثاً: العراق: عراك ما بعد المعركة:

* معركة العراقيين مع الأمريكيين مع شراستها وفظاعتها، ستبدو بعد انتهائها بسيطة في تركيبها المنطقي، سهلة في حسابات الخسائر والمكاسب؛ فهذا صائل معتدٍ، جاء للقتال من أجل مطامحه ومصالحه الخارجية، فلما تهددت بسبب ذلك مصالحه الخارجية والداخلية، انزوى ورجع القهقرى، والطرف الآخر أبناء وطن معتدىً عليه، انتدب شرفاؤه للدفاع عنه مع من فاؤوا إليهم من مهاجرين و أنصار، تسابقوا إلى الفداء بالأرواح والأموال والدماء.
لكن الأمر سيختلف، والمنطق سيتعقد، والحسابات سترتبك، إذا ما تغيرت معالم المواجهة في الميدان العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، سواء بفعل الأمريكيين الراغبين في إغراق أو إحراق العراق من بعدهم، أو بفعل الفرقاء المتشاكسين الذين سيحاول كل منهم أن يؤسس لواقع جديد، يخدم الشريحة التابعة له، ولهذا فإن ألواناً جديدة من التحديات على الساحة العراقية، ربما يتوالى ظهورها على مسرح الأحداث هناك، وهو ما يستدعي إعادة النظر في بعض الاجتهادات وربما الاستراتيجيات لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ ما تحقق من مكاسب على صعيد المواجهة الكبرى مع أمريكا.
ومن التحديات المتوقع بروزها على المستوى العراقي ما يأتي:

* سيرحل الأمريكيون دون أن تكون مشكلات العراق قد حُلَّت، والمرجح أن يستمر التوتر وربما القتال لإعادة رسم الخريطة الجديدة، والتحدي الذي سيواجه أهل السنة بعد الانسحاب، سيكون ـ على الأرجح ـ متعدد الأوجه، فمن ناحية سيكتشف أهل السنة أنهم الحلقة الأضعف على الساحة السياسـية، بينما تكمن قوتهم في ميدان القدرة القتالية، وهي لا تكفي على كل حال لبناء مستقبل آمن للأجيال، ومن ناحية أخرى فإن أمور القتال نفسها تميل الطبيعة البشرية إلى النفور من طول التضحية فيها بلا أفق منظور، ومن ناحية ثالثة فإن طبيعة القتال بعد انسحاب الأمريكيين ستتغير، وسوف تفقد الكثير من شرعيتها في نظر الناس داخل العراق وخارجه، حتى ولو كانت ضد الوكلاء الرسميين للأمريكيين.

* هناك ندرة ملحوظة في المرجعيات العلمية الدينية عند أهل السنة في العراق في مقابل فائض كبير في المرجعيات الدينية الشيعية داخل العراق وخارجه، ومع تداعيات الأحداث بعد الانسحاب، وفي ظل تغير الأوراق سيحتاج العراقيون السنة إلى من يقودهم في الملمات، ويفتي لهم في المعضلات، ويتكلم باسمهم جميعاً كلاماً مفهوماً ومسؤولاً، وهذا تحدٍّ ماثلٌ للعيان من الآن، ويتفرع عنه تحد آخر، وهي احتمالات انتشار أفكار الغلو والابتداع، سواء من جهة التشدد الخارجي، أو التسيب الإرجائي أو لوثات التصوف أو التشيع، وكلها اتجاهات يمكن أن تنتعش وتنتشر في بيئة فكرية كبيئة العراق، التي لا تزال بكراً عذراء على الساحة السنية، بينما هي ثيب شمطاء على الساحة الشيعية، ولا شك أن الفوضى وعدم الاستقرار من الناحية السياسية، كثيراً ما ينعكس على النواحي الفكرية.

* هناك تضخم في الخبرة القتالية والعسكرية الميدانية على حساب الخبرات السياسية والاستراتيجية، والمشروع السياسي للمجاهدين لا يزال غير واضح المعالم، وإذا وضح عند بعضٍ فإن بعضاً آخر قد لا يوافق عليه، والخطورة هنا أن ينعكس هذا الضعف في الخبرة على التعاطي مع الأحداث، فتنطلق المبادرات، والاجتهادات الشخصية في النوازل الكبرى، دون الرجوع إلى أهل الشأن في مجالات الاجتهاد الشرعي والسياسي والاستراتيجي والإعلامي والاقتصادي.

* هزيمة أمريكا في العراق، لا تعني تراجعها عن أطماعها فيه أو في بقية بلدان العالم الإسلامي؛ فالخطط يمكن أن تتغير، بل قد تلجأ أمريكا إلى تعويض فشلها في العراق باقتحام ساحات أخرى، لاختلاس نجاحات رخيصة في أماكن ضعيفة، ولهذا لا ينبغي النظر إلى هزيمتها في العراق على أنها نهاية المطاف.

قد تنجح أمريكا في جلب قوات عربية وإسلامية، لتكون المعركة في العراق عربية عربية، وهذا سيناريو خطير، لا بد من التنبه له والاستعداد لإبطاله، وخاصة إذا أخذ شكل قوات لحفظ السلام أو إعادة النظام أو غير ذلك من الشعارات الخداعة التي يمكن أن تحقن بها أمريكا دماء جنودها، لتريق دماء المسلمين بعضهم ببعض.

* الساحة في العراق مهيأة لتفحش وتوحش ظاهرة العملاء الخونة، سراق الجهود وقطَّاف الثمرات وخدم الأعداء، وهؤلاء يقتضي الأمر إحكام أمر التعامل معهم فقهياً أولاً ثم عملياً، حتى لا تتكرر مصائبهم التي ألحقوها بالجهاد في فلسطين، عندما تحولوا إلى سرطان خبيث بيد الصهاينة.

* إذا كان المشروع السياسي أمراً مهماً في مواكبة المشروع الجهادي، فإن هناك مشاريع أخرى دعوية وتنموية واجتماعية وإعلامية، سيكون تفعيلها وتقويتها إسناداً مستقبلياً لأهل السنة في العراق واستمراراً لدورهم المركزي في إفشال مخططات الهيمنة والإفساد من الداخل والخارج، وهذا الأمر بحد ذاته ينشئ دوراً لكل راغب في الاستجابة لواجب النصرة، وكل مشتاق للشراكة في صنع النصر، من داخل العراق أو من خارجه؛ فمن غير المقبول أن يتداعى يهود العالم لمساندة إخوانهم المغتصبين في فلسطين، ويتخاذل أهل الإسلام عن نصرة من ينافحون عن عموم المسلمين {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].

ومما يخشى منه أيضاً، أن يقفز إلى عجلة توجيه السفينة قدامى القوميين أو البعثيين أو اليساريين، ليزايدوا على الإسلاميين.

* استـمرار عملـيات الجـهاد ستكتـنفها مصـاعب جمة، إذا أُلجئ الأمريكيون إلى التحصن خارج المدن، في انسحاب شكلي لا حقيقي، ومع أن هذا في حد ذاته لا ينفي حقيقة الهزيمة الأمريكية، إلا أنه سيقلل من شأن الانتصار العراقي؛ حيث سيظل العراق يبدو في حكم الاحتلال مع إظهار مظاهر الاستقلال، وستزداد مهمة المجاهدين صعوبة إذا ما صدَّر لهم الأمريكيون عملاءهم ووكلاءهم المتسمين بأسماء المسلمين، وسيكون الأمر أصعب وأصعب، إذا كان الوكلاء والعملاء، من المنسوبين لأهل السنة من داخل العراق أو خارجه؛ حيث سيسهل على الأمريكيين أن يصوروا النصر العراقي بصورة الهزيمة التي أثمرت قتالاً بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد.

? قد يلجأ الأمريكيون إلى حيلة اللعب بورقة الإسلام المعتدل في مواجهة الإسلام المتشدد، وهي استراتجية يبدو أن الولايات المتحدة ماضية في تشجيعها في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وفي حالة العراق، فإن هذا الاعتدال سيبدو أمام المجاهدين في صورة الانتقال من نهج إلى نهج، بل ربما من ملة إلى ملة، وهو ما قد يفتح أبواباً أخرى من الفتن.

المواجهة لا الهروب:

عوَّدنا المجـاهدون مـن أهل السنة في العراق، على الإقدام لا الإحـجام، وعلـى المجابـهة لا الهـروب من المواجهة، وأمـلنا أن تثبت الأقدام في مهمة الإقدام على مواجهة تلك التحديات قـبـل فـوات الأوان؛ فالـهـروب منـها أو تـأجيـلهـا لـن يقــلل مـن أهميتها، ولن ينفي خطورتها، على أنَّا لا يمكن أن نحمِّل المجاهدين، أو حتى عموم العراقيين مسؤولية المواجهة وحدهم لكل تلك التحديات؛ فالنازلة ليست خاصة بهم وحدهم، كما أسلفت في صدر المقال، وإنما هي عامة لكافة الأمة، وهي ينبغي أن توزع على الجميع ـ أعني التحديات ـ في صورة واجبات كفائية وعينية وفروض وقتية ومستقبلية، كل بحسب قدرته واستطاعته، مع تأكيد التذكير بأن المجاهدين الأبرار، قد قـاموا عـن الأمـة، بما أزاح عن مجموعها الإثم وإزالة العار، فلا أقل من أن تقوم بقية صلحاء الأمة بقسطهم من الواجبات في مجابهة التحديات.
فعلى كل ذي رأي وخبرة واختصاص، من أصحاب الأقلام أو المنابر أو القدرات العلمية أو البحثية أو المالية، في كل ميدان يحتاج إليه أن يسارعوا للقيام بواجب النصرة، والمشاركة في صنع النصر، ولن يعدم حريص الوسيلة لإيصال النصيحة وتقديم العون وتيسير المنفعة، لمن يمسكون الآن بدفة تغيير التاريخ وتصحيح المسار.
ومع الاعتراف بأن التحديات المقبلة أكبر من قدرات قطاع إسلامي واحد في داخل العراق أو خارجه، لتفرعها وتنوعها، فإن ذلك لا ينبغي أن يصد عن التقريب والتسديد بحسب الاستطاعة، ولو كانت البداية ـ كما يحدث الآن ـ محاولة رصد أهم تلك التحديات، والبدء في دراستها، وتمييز الحقيقي منها والوهمي، والنظري والعملي، ثم وضع الأسس العريضة لمواجهتها، بتضافر الجهود بين المختصين والمجربين والمراقبين.

وهذه بعض المعالم العامة في هذا الموضوع:

* لا بد من السعي المكثف لبناء برنامج سياسي لأهل السنة، يراعي تعدد الاجتهادات والسيناريوهات واختلاف الخيارات؛ فالقتال لن يستمر إلى الأبد في العراق، واستغلال مدة ما قبل الانسحاب للوصول إلى صورة واضحة في ذلك، أوْلى من ضرب الأخماس في الأسداس عندما تخلو العراق من الأمريكيين، وتقع فريسة بين خلفائهم أو عملائهم الذين لا بد أنهم قد أعدوا عدتهم ورتبوا صفوفهم منذ زمن.
< لا مناص من الاجتماع على كلمة سواء بين فصائل أهل السنة، سواء المجاهدون منهم أو السياسيون، فكل منها درع للآخر وردء، ولن يتعوض الضعف السياسي الظاهر في أهل السنة إلا بذلك، وكثير من مسائل الاختلاف بينهم ـ على ما نرى ـ هى مسائل اجتهادية، والاجتماع ـ ولو على أمر مرجوح ـ خير من الافتراق أو التنازع.

* وضع أسس شرعية محكمة، وقواعد قتالية معلنة، من شأنه أن يخفف من هاجس فقدان أو نقصان مشروعية القتال بعد الانسحاب، إذا دعت الضرورة إليه، فلا بد من التحديد الواضح للشرائح التي يمكن أن تكون هدفاً للجهاد من الخونة والمرتدين والجواسيس ونحوهم، مع بذل أقصى ما يمكن من الخدمة الإعلامية لهذه الأسس القتالية، بما يزيل الغموض ويدفع الظنون عن غايات الجهاد السامية.

* المرجعية العلمية ـ بفهم أهل السنة ـ قضية بنائية في غاية الأهمية لا تقل في أهميتها عن بناء القوى السياسية والعسكرية {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وندرة المرجعيات العلمية المشهورة في العراق تحتاج إلى معالجة لا يكفيها المدى القريب، ولكن الضرورة تقضي بألا تؤجل وظائف هذه المرجعية حتى وجودها؛ فمن خارج العراق يمكن أن تدرس كبار المسائل، وتبحث دقائق النوازل بالتواصل العلمي الذي تيسرت أسبابه في عصرنا، وإن كان هذا لا يغني عن أن تنتدب طائفة من أهل السنة العراقيين لتعويض هذا النقص، لمعادلته بما هو حادث مع الطوائف الأخرى.


--------------------------------
[1] المحرر : للشيخ ـ حفظه الله ـ رسالة بعنوان ( أمريكا وإسرائيل وعقدة الدم ) ، يشرح فيها أهمية العنصر البشري عند اليهود وإخوانهم الأمريكان . بكلام لم يسبق إليه ـ فيما أعلم و أنا من المتابعين ـ وهو منشور في مكتبة صيد الفوائد قسم قضايا معاصرة . (محمد جلال)